يطلق «أسلوب» فيلمه الصوتي «على الحفة» في طبعته الثانية (بعد نفاد الطبعة الأولى التي أنتجتها «آفاق») من فرنسا. المؤّلف الموسيقي الفلسطيني الشاب الذي كان يعيش في لبنان، وقرر الهجرة إلى بلاد موليير، أراد أن تكون باكورة أعماله هناك إحدى أكثر تجاربه الفنية نضجاً. الفيلم الصوتي الحالي يعتبر واحدة من أهم التجارب الـ«اندرغراوند». يأتي «أسلوب: أساساً من رحم فرقة الراب «كتيبة خمسة». ولمن لا يعرفها، تعتبر الفرقة الفلسطينية التي كان يقيم أفرادها سابقاً في لبنان (هاجروا حالياً إلى لندن) واحدة من أهم تجارب الراب العربية لناحية صدق التجربة ومباشرة الكلام.
يبدأ الفيلم مع صرخةٍ صادحة من امرأة حزينة، مع كثيرٍ من الأصوات في الخلفية حتى نحس كأننا فعلاً في قلب «شارع» بكل ما يحتويه، مرفقاً بجمل هادئةٍ تنطقها بطلة الفيلم «مريم» التي تؤدي دورها تهاني نصّار في أداء يذكّرنا بممثلات الصوت الأول في الإذاعات العربية إبان العصور الذهبية للإذاعات المشرقية. ولأنه فيلم، فإنه يحتاج إلى «جينريك»، وهو ما يفعله المؤلف الشاب (28 عاماً) حرفياً. نسمع صوت «أسلوب» هذه المرة صارخاً «على الحفة»، مركزاً على عرض «حرفته» الموسيقية: موسيقى شرقية بامتياز، تنتهي سريعاً ليعود إلى جو الفيلم الأصلي.

«وسام السلفي» لا يعرف سوى الجلباب، والذقن المحناة، والمسواك، وجهاد النكاح وقطع الرؤوس

تحتدم القصة سريعاً مع عبد الجبار (فرقة «كتيبة خمسة») في دور إبراهيم الغاضب الذي يخبرنا قصته مع والده، ويتداخل صوته مع أخته مريم (الراوية من المشهد الأول) التي تخبره بأن والده فتش بين أغراضه وهو يسأل عنه. تبدو الحرفة في بناء القصّة أن الكلمات التي يقولها إبراهيم (كل مؤدٍ في الراب يكتب كلماته، وبالتالي كلمات إبراهيم من تأليف عبد الجبار) هي من رحم الشارع الحقيقي. يحكي حرفياً عن أهل يبحثون في أغراضه، عن شارع يتعاطى حشيشة الكيف بسهولة، عن شبابٍ لا عمل لهم سوى انتظار الموت، عن علاقةٍ ملتبسةٍ مع العائلة والدولة. يستخدم «أسلوب» تقنيات فصل المشاهد على طريقة السهل الممتنع: فواصل موسيقية تتغير وفق كل مشهد، فضلاً عن أصوات الشارع التي توحي بتغير طبيعة المكان: نشرة أخبار، أصوات سياراتٍ عابرة، قطرات مياه تقطر من غسيلٍ.
تشكّل الراوية الجزء الأساس من رسم الصورة الكاملة للفيلم. تتحدث عن شخصياتٍ ستظهر أو ستحدد كيفية اتجاه الفيلم، ليعبر بعدها نقاشٌ بين الشيخ وصاحب الدكان «أبو داوود»، حيث يؤدي دوريهما ساطي ومقدسي، وهما مؤديا راب فلسطينيان (من الأردن والقدس). يقدم الاثنان صورةً عن طبيعة الحياة في الشارع: المخبر المتربص بالجميع، الناس جالسون بلا عمل، شيخٌ يستدين ويهتم بحياته «الجنسية» وبزوجاته الأربع أكثر من اهتمامه بالله، وبائعٌ يكره الزبائن لأنهم لا يدفعون. تقنياً، نلاحظ طبيعة الموسيقى المتناقلة، أي أنّها تتناسب مع كل شخصية، فنقاش البائع والشيخ أقرب إلى حوارٍ هامشي لطيف يحتاج إليه الفيلم لفهم تفاصيل أخرى. يظهر إد عباس بعد ذلك في دور «المخبر»، تلك الشخصية المحورية الموجودة في كل الأحياء الفقيرة. يعمل مع الدولة، يسكن الحي، يعرفه كل الناس، إنه واقعي: منهم وعدوهم في آن. يعتبر إد عباس إحدى التجارب اللبنانية الجميلة في أداء الراب (فرقته «فريق الأطرش») فيقدّم صورةً حقيقية للمخبر الذي لا يهتم إلا بمصلحته ويحوّل أي شيء لوشايةٍ يقبض عليها مالاً. في لحظةٍ ما، يطل «أسلوب» برأسه، فنسمعه يقول كلمتين بسيطتين مقدماً إبراهيم غنيم. وكأي فيلمٍ حقيقي، فإنه بحاجة إلى تقنية «اللمسة الكوميدية التخفيفية» (comic relief) التي ينجح الممثل الفلسطيني المقيم في الأردن شيكس العلي في تأديتها، موحياً بتلك الشخصية الغاضبة الشاتمة لجميع سكان الشارع بسببٍ أو بغيره.
تعود مريم لتروي بقية الحكاية، مفسحةً المجال أمام «الجزار» (فرقة «كتيبة خمسة») ليقول حكمة الفيلم تقريباً: روح مريم ستأخذ حريتها، لكن حتى اللحظة لا يعرف المستمع ممن. ماذا إذاً عن تغيير «المود»/ الروح موسيقياً؟ يطلق «أسلوب» اليد لفرقة «قمح» (حسين قمح وزياد صادر). يأتي حسين قمح مع موسيقى فرحة/ راقصة كعادة المجتمعات الحقيقية: لا شيء مطلقاً أبداً. ذلك يتباين بسرعة مع شخصية «وسام السلفي» التي تبرز طبيعة الإسلامي المحدث الذي لا يعرف عن الإسلام شيئاً سوى الجلباب القصير، والذقن المحناة الحمراء، والمسواك، وجهاد النكاح وقطع رؤوس الخصوم. عند تلك اللحظة، يبدو عمق القصة بوضوح: أبو ابراهيم (يؤدي دوره شاهد عيان من «كتيبة خمسة») يريد تربية ولديه (إبراهيم ومريم) بالطريقة المتخلّفة القديمة: الضرب. نسمع كلمات الرجل وطبيعة الموسيقى «الغاضبة» خلفه، مع استعمال مدهش لتقنيات عازفة الفلوت الفرنسية/ السورية نيسم جلال ليختتم المشهد نفسه مع أحمد (حبيب مريم ويؤدي دوره «مولوتوف» من «كتيبة خمسة») الذي يأتي محاولاً إنقاذ ابراهيم من بين يدي والده معرياً المجتمع. جعفر الطفار أهم تجربة لبنانية في عالم الراب المحلي خلال السنوات العشر الفائتة يطل في تصويرٍ حقيقي لتاجر «الحشيشة» القادم من منطقةٍ بعيدة. إنها تجارة «المر» والألم لا كما يصوّرها أحد: فهو يبيعها لأن الشتاء القاسي الطويل لن يرحمه ما لم يفعل ذلك. الرحلة التي يصوّرها جعفر ابتداء من رحلة الفان الطويلة من الهرمل إلى بيروت تنتهي وصولاً إلى إبراهيم «الصالي متل ابليس» المتحوّل إلى ملاك في حديثه عن اليوميات. ولأن الشأن السوري جزءٌ من الثقافة المحلية اليوم في أي بلدٍ عربي، يطل رامي السباعي مؤدي الراب السوري الذي أتى كمهجّرٍ إثر الأحداث السورية. وإن كان مقطعه قصيراً، يصف رامي الجو عبر نظرة «الغريب» الذي لا مكان له لما يحدث حوله وكيفية استقبال/ استغلال الناس له، ليعود ويختتم هذا الجانب/ المشهد من الفيلم مع «أبو غابي» المغني ذي الصوت الجميل مؤدياً موالاً معبراً عن «سوريا» التي «هذا وطننا اللي جمعنا ولمّنا». في المحصّلة يرسم «أسلوب» ألبوماً/ فيلماً صوتياً مختلفاً عن المعتاد، يشد كثيراً إلى تفاصيل الحياة اليومية للناس، ضمن رسمٍ موسيقي ممتلئ، يجب الاستماع إليه من دون أحكامٍ مسبقة. يبدو الجهد المبذول كبيراً، وخصوصاً إذا عرفنا بأن الفيلم استلزم أكثر من 200 ساعة عمل وتواصلاً مع فنانين من مختلف أنحاء الوطن العربي. بقي أن نشير إلى الغلاف الأكثر من رائع المرسوم على طريقة «الغرافيتي» للفنان المتعدد المواهب زياد صادر.