لقي مسلسل Breaking Bad عند إطلاق موسمه الأوّل (من ستة مواسم) في عام 2008 تناغماً عبقريّاً مع الأزمنة التي كان يعيشها المجتمع الأميركي: أزمة اقتصاديّة وماليّة عالميّة لا نهاية لها، وتعفن سياسيّ في أعلى هرم السلطة والنخبة الحاكمة، وحروب إجراميّة في الخارج جلبت العار وكراهيّة الشعوب الأخرى، وطبقيّة مقيتة صارمة أغلقت تقريباً كل أبواب الترقي الاجتماعي أمام الأجيال الجديدة، وتفسّخ مجتمعي وانحلال أخلاقيّ وتقرّحات عنصريّة.بطل المسلسل، شخصيّة وولتر وايت، أستاذ الكيمياء في مدرسة ثانويّة، كان بشكل أو آخر تمثلاً لجيل كامل من الأميركيّين المصنّفين طبقة وسطى: عدة عشرات من الملايين ممن عبروا منتصف أعمارهم من دون أن يتمكّنوا من تحقيق أي جزء من وهم «الحلم الأميركي»، يعيشون رغم تأهيلهم الأكاديمي العالي وخضوعهم التام لرأسماليّة النخبة على كفاف الراتب الشهري، الذي بالكاد يكفي لتسديد الفواتير وأقساط الديون المتراكمة. وعندما يفقدون وظائفهم وفق برامج إعادة الهيكلة الدّوريّة، أو يصابون بعلل مزمنة أو قاتلة، ينتهون حرفيّاً إلى الطريق. وايت، بانحرافه التدريجي إلى شخصيّة هاينزبيرغ تايكون وصناعة المخدرات، منح كل أميركي من هذا الجيل مهرباً خيالياً من الواقع القاسي، حيث يمكن بشكل ما تحقيق الذات رغم تهميش المجتمع، وأزمات الاقتصاد الرأسمالي الطاحنة والمتكررة.
هذا التناغم مع روح المرحلة، كما الأداء العبقري لبريان كرانستون في الدور الرئيسي ومعه بقية الممثلين، حرفيّة السرد الذي يغزل خطوطاً متشابكة عدة معاً، وذلك التطوّر ثلاثي الأبعاد والمثير لشخصيات غير مقروءة تماماً من الآخرين أو حتى من ذواتها، كل ذلك تقاطع معاً ليمنح دراما Breaking Bad نفساً من واقعيّة عميقة، وقُدرة استثنائيّة للقبض على تعقيدات الحياة البشرية في لحظة تاريخيّة معاشةٍ، والتي تُرجمت في النهاية نجاحاً أسطوريّاً لدى الجمهور الأميركي بالذات.


إحدى الشخصيات الثانوية المميزة التي قدّمها Breaking Bad كانت للمحامي الجنائي قليل الذّمة شاؤول غودمان (بوب أودينكريك) الذي كان يدير أموال وولتر وايت. من حيث المبدأ لم تكن لدى منتجي العمل، بيتر غولد وفينس غيليغان، أيّ نوايا لتطوير دراما تلفزيونيّة طويلة مستقلة حول تلك الشخصيّة، ولم يتعدَّ الأمر حدود المزاح عند تلقّي المزيد من اقتراحات الفريق حول حبكات إضافيّة لدور هذا المحامي المتحذلق بأن يُقال لأصحابها سنترك ذلك لمسلسل مشتقّ تالٍ. في النهاية، فإن إمكانات شخصيّة غودمان، والشعبيّة الجارفة التي حظي بها من قبل جمهور Breaking Bad، دفعتا بهما إلى المغامرة بإطلاق Better call Saul (في ستة مواسم بين عامَي 2015 و2022) حظيت منذ اليوم الأوّل بكثير من الاهتمام لدى الجمهور الأميركيّ. كثيرون اعتبروا المسلسل إنجازاً أهم حتى من Breaking Bad نفسه، ليحجز العمل له مكانة رفيعة في تاريخ العصر الثاني - الذهبيّ – للتلفزيون، زمان منصات البث عن الإنترنت (نتفليكس وأخواتها).
يستعيد Better Call Saul سيرة غودمان، الذي نعرف الآن أن اسمه الحقيقيّ كان جيمي ماغيل، قبل أن يغيّره في سياق تطور الأحداث إلى الاسم اليهوديّ الإيقاع شاوول غودمان، مستوحياً إياه من التّعبير الدارج على لسان عملائه المجرمين S'all Good ، Man!، ما يعني أن كلّ شيء على ما يرام! بالطبع، فإنّ هنالك انطباعاً لدى البعض في الولايات المتحدة – وبريطانيا أيضاً – بأن المحامي اليهودي أكثر تفهّماً للرماديّات وأقدر على التأثير في المنظومة من الآخرين.
جيمي/ شاؤول هو فنان احتيال بالفطرة، لكنّ تطوّر شخصيته من هاوي خداع محليّ تافه في شيكاغو إلى محتال محترف يمثّل أكبر كارتيلات المخدرات في مدينة البوكيرك (ولاية نيو مكسيكو)، التي تحتل كامل مساحة المواسم الستة، تمثّل واحدة من أهم ملاحم تطوّر الشخصيات في تاريخ الدراما التلفزيونية. النظريّة الأساسيّة لهذا التطور تعتمد ذات صيغة Breaking Bad الأقرب للأنتروبي، بمعنى ذلك التدحرج البطيء الذي يأخذ الشخصية الإنسانيّة من ارتكاب عمل شائن صغير أو كذبة بيضاء يرافقها تأنيب الضمير إلى وضع تحول الخطيئة منهجاً يحكم نظام السلوك برمته من دون الشعور بأي تناقض. البشر عند غولد وغيليغان محكومون بالتردي المحتّم.
تطوّر الشخصيّة لا يعتمد بأي شكل على عنصر المفاجأة. إذ إن السرد القصير الموازي بالأسود والأبيض لأيّام جيمي الوحيدة والبائسة لاحقاً - عندما يتخفّى هارباً في شخصية جين تاكوفيتش الموظف في محل سينابون في الجهة الأخرى من الولايات المتحدة - يعلمنا منذ الحلقة الأولى بالمآلات، ويعطي جواباً صريحاً عن سؤال دراما العمل الأساسي. العبرة (والمتعة) هنا حرفيّاً في قراءة مسار التحوّل المتدرج، وذلك التداخل المتوتر بين الأسئلة والأجوبة في المواقف الفرعيّة المتلاحقة.
في هذه الملحمة، تتفاعل السمات الشخصيّة لجيمي الذي يتذوق لذّة خداع الآخرين مع الدّوافع المرحليّة المرتبطة بعلاقاته المعقّدة بأخيه المحامي البارز تشارلز ماغيل(مايكل ماكين)، ومنافسه المفترض شريك أخيه في مكتب المحاماة هوارد هاملين (باتريك فابيان)، كما زميلته وصديقته ولاحقاً زوجته كيم ويكسلر (ريّا سيهورن)، ومتعهد الخدمات في العالم السفلي الذي يتعاطى معه مايك إيرمانتراوت (جوناثان بانكس)، وأيضاً عملائه من العجائز المتروكين بداية، ثم الأشرار التعساء الذين يأتون من كل لون وحجم وشكل، بمن فيهم تاجر المخدرات السيكوباثي غوستافو فرينج (جيانكارلو إسبوزيتو)، وناتشو فارجو (مايكل ماندو ) المجرم القادر مع ذلك على التضحية بحياته من أجل أبيه، وأيضاً لالو سالامانكا (توني دالتون) ممثل إمبراطوريّة توزيع المخدرات التي تتقاسم نيو مكسيكو مع غوستافو وتحاول الاستفراد بها، وبالتأكيد مع والتر وايت (بريان كرانستون) ورفيقه في الجريمة جيسي بينكمان (آرون بول) اللذين يظهران في حلقة واحدة ضمن الموسم الأخير.


على أن حكاية جيمي/ شاؤول، بكل تفاصيلها الشخصيّة المتشابكة، ليست في المحصلّة ــــ كما Breaking Bad ــــ إلا منصة تُطرح من خلالها مجموعة واسعة من القضايا السياسيّة والفلسفيّة والسيكولوجية بما في ذلك مفاهيم السلطة والسيادة والحكم، ونقد المجتمع البورجوازي، وتوحّش الرأسماليّة، وطبيعة الخير والشر وتداخلهما في البشر، ومعنى الهويّة الشخصية، وجدل الإرادة الحرة مقابل الحتمية، وممارسة القانون من حيث صلته بالأخلاق، والانعكاسات الاجتماعيّة للحرب على المخدرات، والحبّ بين الرجل والمرأة، واشتباك المرض الجسدي بالوجع السيكولوجي، وخداع الذات، وغيرها الكثير، حتى يمكن الزّعم بأن أعمالاً قليلة في تاريخ الشاشة نجحت في نقل تعقيدات الحياة البشرية – بصورتها في المجتمع الأميركي حصراً - بشكل أفضل مما فعل Better Call Saul.
التقاط أطراف هذه المروحة الواسعة من القضايا الجدليّة المطروحة في Better Call Saul يرتبط أساساً بثقافة وحساسيّة واهتمام شخص المشاهد، فيأخذ كلٌ من هذه الدراما العبقريّة ما يعنيه ويدركه، بينما يستمر تقدّم الأحداث في وفاء تام للحكاية بتفرّعات حبكتها، في مزاج خليط من المرح والسخرية والإثارة، المسنود بالتصوير البصري الذكي، ومن دون الوقوع إطلاقاً في فخ الخطابيّة والمباشرة.
ربما يكون الطرح الفلسفيّ الأهم في Better Call Saul – من وجهة نظري الشخصيّة على الأقل – هو مساءلة معنى السلطة والسيادة والحكم في دولة مثل الولايات المتحدة. يسخر كاتبا المسلسل من المفهوم من خلال نكتة صريحة مباشرة عبر شخصيّة عابرة: ريكي سايبس، العميل المحتمل لجيمي ماغيل.
سايبس يقترح أن يتولى جيمي تمثيله في أم المعارك: دعوى قضائية تنهي جميع الدعاوى القضائية عبر إصدار إعلان قانونيّ بالانفصال عن ولاية نيو مكسيكو وقيام دولة ذات سيادة: جمهورية سانديا المستقلة.
جيمي يدرك أن سايبس، وإن لم يقل شيئاً مجنوناً، لكنّه حتماً موهوم - بحكم منطق القوة المحض الذي تمارسه السلطات الاتحاديّة -، ولكنّه يجاريه نتيجة إغراء المبلغ الضخم الذي وعد العميل بدفعه مقابل الأتعاب، إلى اللحظة التي يفتح عندها حقيبة النقود ويجد صورة سايبس تتوسط أوراق البنكنوت المطبوعة.
بالطبع، جمهوريّة سانديا ستظل وهماً، لأنّ لا أحد يحصل على الاستقلال بمجرد إعلانه (ما يذكّرنا بإعلان استقلال فلسطين أيّام المرحوم عرفات)، بل يُنتزع انتزاعاً، كما علّمنا توماس هوبز في «الليفياثيان» في القرن السابع عشر. فالسيادة هي امتلاك القوّة لإنفاذ العقود، وحماية الأفراد، وفرض السلام.
خليط من المرح والسخرية والإثارة، المسنود بالتصوير البصري الذكي، من دون الوقوع إطلاقاً في فخ الخطابيّة والمباشرة


بخلاف هذه السّخريّة المرّة، فإن Better Call Saul يقدّم واقع الحياة الأميركيّة سياسياً حيث التناقض الشكليّ بين نظامين متوازيين. الدّولة ممثلة بالسلطة (القضائيّة/ العدليّة)، والكارتيل.
وفي النتيجة، فإن كلا النظامين في التحليل النهائي لهما هياكل متشابهة، تقوم تحديداً على امتلاك عناصر السيادة أي - إنفاذ العقود وحماية الأفراد وفرض السلام - في مجتمع حالته الطبيعيّة هي الصراع المستمر، وحيث العدالة هي فرض قانون الجهة الأقوى.
توازي النظامين وتعايشهما واقع من حيث أنّ من يتمرّد على هيمنة النخبة الثرية ويحاول تحقيق الحلم (الأميركي) بتمثلاته الماديّة عبر الطريق المتاح الوحيد تقريباً، أي تجارة المخدرات، لا يمكنه استدعاء رجال الشرطة عند تعرضه لاعتداء، ولذلك فلا بدّ للفرد في مثل هذه الغابة، من استدعاء سيادة الكارتيل للحصول على الحماية، وتنفيذ التعاقدات، وإن كانت كلفة ذلك ماليّة على شكل ضرائب ورسوم، أو خدميّة على شكل التجنّد للقتال في وقت الحرب، أو القبول بأحكام عدالة زعماء الكارتيل وتعليماتهم مهما تطرّفت. أليست هذه تحديداً مهمات الدّولة؟
دور المحامي غودمان هنا هو في الوساطة اللازمة بين النظامين بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ولا يدخلان في حرب إلغاء مفتوحة.
الاستنتاج الذي نصل إليه أنّ الفرد العادي في نيو مكسيكو – كشريحة ممثلة للدولة الأميركيّة – ينبغي له في النهاية أن يختار العيش في فضاء إحدى السيادتين المتوازيتين: إما هيمنة النخبة الحاكمة والقبول بحماية النظام الرسميّ وحكماً التهميش الاقتصادي المحتّم لكل من هم خارج الطبقة، أو هيمنة الكارتيل (دولة سالامانكا) والقبول بحكم العصابات مقابل فرصة ممكنة لتحقيق الحلم الأميركي (أي الحلم الرأسمالي المستحيل موضوعيّاً للأكثريّة عندما تحققه الأقليّة). العيش بين النّظامين في آن، أمر محفوف بالمخاطر، ويحتاج إلى خبرة عميقة في أصول الاحتيال وتلبيس القبعات. فإذا لم تمتلك مهارة كافية في ذلك، عندئذ سيكون من الأفضل لك بالطبع أن تتصل بشاؤول، تماماً كما ينصح عنوان المسلسل.

* Better Call Saul على نتفليكس