أول رواية قرأتها في حياتي، أو حاولت أن أقرأها في الحقيقة، كانت من ترجمة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي. وهي رواية «جوستين»، الأولى من رباعية الإسكندرية للورنس داريل. كنت وقتها في نهاية المرحلة الإعدادية، أو بداية الثانوية، في المدرسة. لست أذكر الوقت بالضبط. وكان خالي قد ترك القرية نهائياً، وترك كيسين مملوءين بالمجلات والكتب في بيت أبيه الذي هُجر. وصار الكيسان غنيمتي في قرية لم تكن فيها كتب سوى كتب المدرسة، والقليل من الكتب الدينية عند بعض الناس. أما المجلات والصحف، فلم تكن تصل إليها. قرأت كل ما في الكيسين عدا الكتب القليلة المكتوبة بالإنكليزية. ثم حملت «جوستين» معي إلى البيت محاولاً قراءتها. كنت أقرأ وأعيد، ثم أقرأ وأعيد. أقرأ عشر صفحات ولا أفهم. ثم أترك الرواية لأسبوع وأسبوعين، وأعود لأقرأ من البداية، لكنني لا أفهم. وهكذا مضت أشهر وأنا أحاول قراءة الرواية، لكن الفشل كان مصير محاولاتي.

(تصوير أسامة سلوادي)

وبعد سنوات طويلة جداً، اشتريت نسخة من «جوستين»، لكنني لم أقرأها.
على أي حال، فبعد أكثر من ثلاثين عاماً، أي عملياً بعد جيل، تعرفت على سلمى الجيوسي عبر الرسائل، ثم عبر الإيميلات، ثم التقيتها بعد ذلك وجهاً لوجه في فلسطين.
وقد بدا لي أن الدكتورة سلمى لم تكن ناقدة تعيش في عالم الكتب، بل كانت ناقدة «تحرث الأرض» أولاً، وقبل كل شيء. وهنا كانت نقطة قوتها: الحراثة في الأرض بيديها العاريتين. ويمكن لي أن أقول إنها قد أمضت حياتها باحثةً عن النبتات الأدبية الجديدة وعلى الأخص في فلسطين. كانت تدرك أن هذه النبتات، الشعرية والأدبية عامة، يمكن أن تُداس بالأقدام وأن تتحطم ما لم يصل إليها أحد، ويكتشفها ويحميها. من أجل هذا، لم يذهب إليها ممثلو الكتابة الشابة، كما جرت العادة، بل كانت هي من تذهب إليهم. كانت تطاردهم في كل المدن، وتطارد منشوراتهم وقصائدهم في المنابر المعروفة، وغير المعروفة.
حصل هذا معي شخصياً ومع جيلي الذي بدأ يكتب بعد منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وكان جزء كبير منّا قد دفعته الحياة إلى بيروت: زكريا محمد، غسان زقطان، وليد الخازندار، أمجد ناصر. وكان غيرنا يقيم في مدن أخرى.
وكانت الموضة وقتها موضة «الشعر المقاوم». أما نحن فكنا نحاول أن نكتب شعراً بسيطاً بلا سلاح ولا بطولة. نكتب عن النملة والزهرة وعن الظل والنور، وعن الحصان والحمار. ولم تكن الغالبية ترى في ما نكتبه شيئاً مهماً.
هذا لا يعني، بالطبع، أننا لم نكن متورطين في السياسة مثل غيرنا. بلى كنا متورطين فيها بأشدّ ما يكون التورط. لكن نقطة وعينا المركزية أننا لم نكن نريد للسياسة أن تستغل الشعر، أو أن تبالغ في استغلاله. فقد أحسسنا أن السياسة استغلت الشعر حتى كادت أن تحطمه كما تتحطم مزهرية رقيقة. لهذا كنا نقفل الباب أمام السياسة حين نقعد كي نكتب شعراً.
ولم يكن هذا متوافقاً مع المزاج السائد وقتها. وأذكر أنّ أحد الشعراء المهمين الذين كانوا يمثلون المزاج العام، أخبرني أنه فكّر في دعوتي مرة لمهرجان شعر فلسطيني في بيروت، لكن حين قرأ قصائدي لم يجد فيها ما يدل على أنني فلسطيني، فاستنكف عن دعوتي. وكانت ملاحظة هذا الشاعر صائبة من وجهة ما. فليس هناك شيء فلسطيني مباشر في شعرنا، كما كانت الحال عند محمود درويش، أو أحمد دحبور، أو عزالدين المناصرة (وكلهم ليس موجوداً في عالمنا هذا اليوم). لكننا لم نكن لنتراجع أمام هذا المناخ العام. فقد كنا نريد أن نسبح في مياه أخرى. وكان الشعر سيدنا الأول، ثم يأتي بعد ذلك أي شيء.
بذلت كل ما أمكنها لتعريف العالم بماضينا الأدبي


ثم جئنا إلى الثمانينيات.
وهنا ظهرت سلمى الخضراء الجيوسي. كانت تعمل على كتابها الكبير: «موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر». وكانت من أجله تطوف الأرض بحثاً عن الشعر الفلسطيني، وعن نبتاته الجديدة. وعثرت علينا. لم نرسل إليها، هي من أرسلت إلينا. لم نرحل إليها، هي من رحلت إلينا. كان في يدها إبريق ماء وكانت تطوف لتسقي النبتات الجديدة.
وقفت الدكتورة سلمى، وقالت: هذا شعر جديد. هنا تجري ثورة شعرية ما، لكن بلا بيانات شعرية ولا ضجيج كبير. تجري مثل نهر سري تحت الأرض. وبجرأة لا مثيل لها وضعت ما يكتبه هذا الجيل، ضعيف العضلات، في مواجهة الشعر السائد، وفي مواجهة ملوكه الأقوياء. لقد قررت بشكل ما أن تخوض حربنا، حرب النبتات الجديدة، وأن تكتب هي بياننا الأول، وكتبته حقاً. فقد كان كتابها المذكور «موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر»، بشكل ما، هو بياننا الشعري الأول. ولم يعجب كثيرين ما قالته سلمى الجيوسي عنا. لكنها هي من انتصرت في نهاية الأمر. فلم تمض إلا سنوات قليلة حتى هيمن المزاج الشعري الجديد الذي أتينا به، وختم الشعر الفلسطيني بطابعه. وصار مزاج شعر الستينيات والسبعينيات مجرد ذكرى. بل وأرغم شعراءه الكبار، على أن يسيروا، بشكل ما، في الطريق الذي عبّدناه.
إذن، فقد كانت نقطة تفوّق الدكتورة سلمى الأولى أنها «حرّاثة» عظيمة. أما نقطة تفوقها الثانية، فكان ذوقها. كان ذوقها أرقى وأشد حساسية من الناس الذين كانوا أصغر منها بعشرين وثلاثين عاماً. ظل ذوقها الشعري حاداً ومتجدداً. كانت تكبر وكان ذوقها يظل شاباً. ثمة نقاد معروفون في العالم العربي كتبوا كتباً ضخمة عن الشعر، لكنهم لم يكونوا قادرين في الواقع على التفريق بين قصيدة جيدة وقصيدة رديئة. أما سلمى الجيوسي، فكانت تملك ذائقة شعرية لا مثيل لها. وهذه الذائقة هي التي انتصرت في نهاية الأمر.
بذا يمكن لي أن أقول إننا كجيل شعري من خلق سلمى الجيوسي. صحيح أننا كنا نزرع نبتات الشعر الجديدة قبل أن نعرفها، لكن من أزاح بيديه الشوك والعشب كي ترى هذه النبتات الشمس إنما هو سلمى الجيوسي.
كل الشعر الجيد الذي يكتب في فلسطين الآن هو، بشكل ما، ثمرة من ثمار ذوق سلمى الجيوسي. ثمرة جرأتها، وثمرة يديها اللتين جرحتهما الأشواك.
بالطبع، أنا أتحدث هنا عن تجربتي وزملائي الفلسطينيين. لكن جهد سلمى الجيوسي كان أوسع من ذلك. كانت تطوف الأرض العربية، وليس أرض فلسطين وحدها، من أجل نبتات الشعر الطرية الجديدة. فقد كانت تحارب من أجل أن تقنع العالم أنه يجب عليهم أن يسمعوا ما تقوله هذه الأمة، الأمة التي لم تتزعزع قناعة سلمى بوجودها أبداً. وكانت تجمع الأصوات من كل صوب، وتحملها، ثم تضرب على باب العالم بيديها وتقول لهم: اسمعوا، اسمعوا ما لدينا.
وقد أسمعت.
لكنها لم تكن تفعل هذا بخصوص العصر الحالي فقط، بل فعلته بخصوص الماضي. لهذا بذلت كل ما أمكنها لتعريف العالم بماضينا الأدبي. كانت مقتنعة أنه لم يكن هناك أدب ينافس الأدب العربي في عصر ازدهاره سوى الأدب الصيني. وكان أبو العلاء المعري عندها أعظم شاعر في الكون في عصره.