يشغل مسلسل «رسالة الإمام» الرأي العام مُنذ انطلاق عرضه في الموسم الرمضاني الحالي، بداية من الهجوم السلفي على المُسلسل باعتباره صورة مُشوّهة عن الإمام الشافعي، القطب الأكثر أهميّة بين أئمة الإسلام الأربعة، مروراً بالجدل حول اللغة المحكيّة في العمل، وانتهاءً بالهجوم على طاقم التأليف بسبب نسب أبيات إلى الشافعي، وهي من تأليف الشاعر السوري حُذيفة العرجي. يحوم الجدلُ حول المُسلسل من نواحٍ عدة، سواء في بعض الجوانب التاريخية، على مستوى التوثيق واستقطاب الواقع، أو في سياق درامي، يتعلّق بأحقية الفن بإعادة إنتاج الواقع في إطار مُتخيّل. لذلك تم التنويه في تتر بداية المُسلسل، بأنّ بعض أحداثه قائمة على الخيال، إلا أنّه لا يمكن استبعاد تضمين هذه الجُملة في إطار الحذرِ من هجومٍ ديني على أحداث المُسلسل.
رغم أهمية الجدل حول «رسالة الإمام»، يظلُّ هناك جانب مركزي في مسيرة الشافعي، كمرحلة مُهمّة في تاريخ الخطاب الديني، على مستوى التأسيس، تطرّق إليه الباحث والمُفكّر الراحل نصر حامد أبو زيد في كتاب «الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الواسطية» والمُفكّر السوري الكبير الراحل جورج طرابيشي في كتاب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث».
خلافاً للصورة الدرامية النموذجية عن الشافعي، حيث ابتسامته الدائمة وتصالحه الحاضر في كل خلاف، ومروره على دير مسيحي لِعلاج زوجته، وتدخّله في الأوقات الخطرة لإعادة جمع الصفوف، يُطالعنا التاريخ بنسخة مُغايرة للإمام المُسلّم، بل الذي أسّس للصورة المركزية، الجامدة، التي تُمثّل صوتاً مُعطّلًا لنشوء أي مشروع فكري وعقلاني عربي.
في كتابه عن الشافعي، يقول نصر أبو زيد: «الشافعي يبدو كأنه يؤسس بالعقل إلغاء العقل ونفي الخلاف والقضاء على التعددية، وحاول استخدام بعض آليات التفكير العقلي ليُبرر نفي العقل وحبسه في دائرة النصوص». يؤطر أبو زيد لنقده حول حضور إرث الشافعي في الخطاب الديني، من خلال الصراع بين تيار «الحديث/ أنصار سلطة النص» وأهل الرأي «أنصار سلطة العقل». تمثّل مشروع العقل في الفرقة المعتزلية، التي قامت على تحرير العقل جُزئياً من سلطة النص وتحرير الفعل الإنساني من سلطة الجبر والاستبداد، ورغم أن ما تبقّى لنا من المُنتج المُعتزلي الفارق في التاريخ الإسلامي، يظل للشافعي دور كبير في بتر ذروة صوت حُرية الحضور العقلي، إذ استطاع التأصيل لمشروع يُسمّيه أبو زيد «الوسطية التلفيقية» القائمة على تقديم سُلطة النص وتقييد العقل بها.
جاء الإمام الشافعي خلال مرحلة فارقة في التاريخ الإسلامي، وهي عصر التدوين، التحوّل الثقافي من الشفهي إلى التدوين، كانت هذه المرحلة مجال خلاف مُتعدد الأبعاد، انحصر بين ثنائيات الثبوتية والتغيير، واللغة الدينية هي مادة الخلاف. استطاع الشافعي حسم الصراع لصالح التثبيت والهيمنة، من خلال صياغة «خطاب معرفي» لمجالي الفقه والتشريع، وقد كُتب لهما حضور مركزي في ثقافة الأمّة، التي أصاغت مذهبها -من خلال الإجماع- وفقاً لمرجعية النص، حفظه وتكراره، بدلاً من الحضور العقلي كمرجع ذي قوّة مُفكّرة ومبدعة، حرّة على مستوى الاستدلال والاستنباط.
يُسائل نصر أبو زيد الخطاب «الوسطي» للشافعي بدلاً من التسليم به، إذ إنّ الإمام استخدم مفهوم الوسطية بين أهل الرأي والحديث بصورة «تلفيقية»، لأنه مفهوم نتج عن تحيّز لأهل الحديث، يقوم على تقييد عمل العقل، وتوسيع دائرة النقل مُثبت الحجّة المرجعية، بينما إعمال العقل يأتي فقط في حالة الاضطرار، وبشرط ألا يتم إعمال العقل سوى في إطار اكتشاف ما هو موجود في النصوص، لأنّ الخروج عن دائرتها يؤدي إلى التنازع والخلاف.
من ناحية أكثر تأسيساً، عمل جورج طرابيشي في كتاب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» على تتبّع تضخّم البنية الحديثية والانتصار «المعرفي» لأهل الحديث، ويرى طرابيشي أن الإرث المعرفي للشافعي هو أول أسباب تغييب العقل العربي، وتقليص دوره وفعاليته بحكم اعتباره مزموماً مع أهل الحديث.
خلال مُحاولة إحالة السنة من نص شارح إلى وحي بديل، طابق الشافعي بين لفظ «الحكمة» في القرآن و«السُّنّة»، مع تجهيل شرط المعيارية في اللغة. مثلما يُذكر طرابيشي، وردت «الحكمة» في القرآن إحدى وثلاثين مرة، انتقى منها الشافعي سبع آيات فقط، ألبسها لباس «السنّة»، لكن «السنة» خلال تناول طرابيشي لها، تعني في لسان العرب «الطريقة»، إضافةً إلى وجود الحكمة في القرآن خلال سياق لغوي مُغاير لإحالات الشافعي لها كي تُشير إلى السُّنّة.
لم يكن الشافعي أول من تحدّث في ثنائية القرآن والسنة، لكنه كان مؤسس هذا الخطاب فقهياً ومعرفياً، لأنه فتح باب جعل القرآن والسُّنّة كوحي واحد، ولذلك حُجّم إعمال العقل بصورة شبه كُليّة، وغدا النص هو المُحرّك الأول للإنسان، ما يُحوّله إلى اشتباك «آلي» مع مرجعيته، ويتحوّل النص إلى صنم يُحارب أهل الرأي والكلام، الذين قال عنهم الشافعي، بأن «يُضربوا بالنعل ويُطاف بهم بين القبائل».
هجوم سلفي على العمل باعتباره صورة مُشوّهة عن الإمام


جاء تأسيس الشافعي في صالح تضخّم المُدوّنة الحديثية، التي حوت كل ما يتعلق بالحياة من كيفية في شؤون الخاص والعام، الأكل والشرب، كيفية المُجامعة، وحتى الضحك والكلام والصمت، من هنا جاء «أفول العقل العربي» تحت وطأة النص.
تُمثّل المرحلة الأخيرة من حياة الشافعي التي انتقل خلالها إلى مصر، تغيّراً في تعاطيه مع الرأي الفقهي، لأنه اعتبر بالظرف المكاني كمادة لجودة الرأي الفقهي. لكن مصر، التي ظهر ترحيب علمائها بالشافعي خلال إحدى حلقات المُسلسل، لم تسلم من رأي الشافعي الفقهي القائم على القمع والتمييز، ففي كتاب «الإقناع»، أهم كتب الشافعية الفقهية، فرض على الكافر أن يُعطي الجزية وهو ذليل مصغّر، ممسوك من تلابيبه، ويُقال له «أعط الجزية يا عدوّ الله».
لم يتغير قول الشافعي المذكور، بل استجابت فتاوى مثل طهارة الماء المُستعمل ونقض لحم الإبل للوضوء إلى الظرف المكاني، بينما فتاوى استتابة تارك الصلاة ثم قتله عند إنكار أدائها عمداً والقول في أكل الميتة وإهانة النساء، كلّ ذلك لم يَدخل في إطار التغيير.
تظلُ الوسطية التلفيقية التي أسّست لمنهج نقلي شديد الجمود، إحدى ركائز التوسّع غير المُتسق مع ظروف المكان والزمان ومُعاصرة محطات الفكر وإعمال العقل. ذلك التوارث، وتفحّشه المنهجي، ربما يكون سبباً لتجهيل استعادة الخطاب الوسطي الشافعي في إطار المُساءلة، والنظر إليه، مثل أي مرجعية أخرى، بعين فاحصة وناقدة، مثل الاعتراض على لغة العمل الدرامي، وغيرها من القضايا التي شغلت الجمهور.

* «رسالة الإمام»: يومياً على cbc (س: 1:15)، و«الحياة» (س: 23:45)، وdmc (س: 19:30)، و«الظفرة» (س: 23:00)، و«المحور» (س: 20:00)، و«ART حكايات» (س: 20:30)، وتطبيق WATCH IT