إذا كان بنو عبس يستذكرون عنترة بن شدَّاد كلَّما أَقبلَت عليهم الخَيل، وبنو حمدان يستذكرون أَبو فراس كلَّما جَدَّ جِدُّهم، وإذا كان كلا القومين يفتقدان الشاعرَين الفارسَيْن كما يُفتقدُ البدرُ في الليلة الظَّلماء، فكم يَحسُنُ باللبنانيِّين أَن يستذكروا، هم أَيضاً، فارسة الأَدب والفنِّ الجميل، ماري حدَّاد. وكم يليقُ بهم أَن يستعيدوا تاريخ تلك السيِّدة المتواضعة التي كانت، في حقبةٍ سوداءَ سابقة من تاريخ لبنان، مثيل عنترة وأَبو فراس وأَضرابهما، تكافحُ الظُّلاَّم من ذوي القُربى، المتربِّعين في سُدَّة الحكم، دفاعاً عن حرِّيَّاتهم وحقوقهم، وأَن يفتقدوها كما يُفتقَدُ البدرُ في الليلة الظَّلماء، فتُنيرُ دروبهم، وتبثُّ فيهم روح البسالة في مواجهة الذُّلِّ والهوان!

قبل ثمانين عاماً، وفي منزلٍ من منطقة القنطاري في بيروت، كانت تُقيمُ ماري شيحا حدَّاد (1889-1973)، زوجةُ الأَديب جورج حدَّاد، ووالدةُ الشاعرة ماجدا والأَديبة زينا. وفي 21 أَيلول (سبتمبر) 1943، انتُخب الشيخ بشارة الخوري، زوجُ شقيقتها لور، رئيساً للجمهوريَّة. وقد اتَّسم عهدُه بالظلم والفساد وانتهاك الحرِّيَّات، مِمَّا لم يَبرح ذاكرة اللبنانيِّين، وحفظه التاريخ في صفحاته السوداء. وكان في إمكان ماري حدَّاد أَن تحظى بمكانةٍ مرموقة إلى جانب صهرها الرئيس وشقيقتها لور وشقيقها ميشال وسواهم من الأَقرباء، وأَن تظفر مثلهم بالجاه والمال والنفوذ والسلطان. لكنَّ عزَّة نفسها ورفعة أَخلاقها كانت تأبى عليها أَن تستظلَّ بأَحد، أَو أَن تلهثَ وراءَ مجدٍ دنيويٍّ زائل، أَو أَن تمدَّ يدها إلى مالٍ لا حقَّ لها فيه. بل إنَّها اختارت لنفسها أَن تكون الصوتَ الصارخ في وجه ارتكابات ذلك العهد من خلال قضيَّة الدكتور داهش، رجُلِ الروح والأَدب والفكر والفنِّ الجميل، الذي تعرَّض لاضطهادٍ ظالم أَنزلَه به الرئيس الخوري، خلافاً للدستور والقوانين، على خلفيَّة دعوته الروحيَّة المُنادية بالعودة إلى الإيمان الصحيح باللَّه، وبوحدة الأَديان السماويَّة المُنزَلة، ووحدة الأُسرة البشريَّة، والمُناهضة للتعصُّب الدينيِّ والمذهبيِّ والعرقيّ، والهادفة إلى بناءِ حضارة الروح من جديد في عالَمٍ داسَت عليه المادِّيَّةُ العمياء بسنابكها الجهنَّميَّة وأَطبقَت عليه إطباقة الموت. وقد أَدَّى ذلك الاضطهاد إلى تجريده من جنسيَّته اللبنانيَّة، وإبعاده عن وطنه، وتشريده في أَرض منفاه في 9 أَيلول (سبتمبر) 1944.
كانت ماري حدَّاد على معرفةٍ وثيقةٍ بالدكتور داهش، وعلى احترامٍ كبيرٍ لشخصه وأَدبه وفلسفته. كانت وزوجها وابنتاها في جملة أُدباء وشعراء ورجال علمٍ وفنّ اعتنقوا دعوته تلك. ولذلك ثارت ثائرتُها، وباشرت على الفور كتابة رسائلَ تهديديَّةٍ وعرائضَ وبياناتٍ إلى الأَشخاص الرسميِّين والدينيِّين والمدنيِّين الذين تآمروا على حياته، ورسائل أُخرى إلى السفراءِ والقناصل والمراجع الدوليَّة، كاشفةً فيها الأَستار عن الجريمة التي ارتكبها رئيسُ الجمهوريَّة بحقِّه. وفي 10 تشرين الأَوَّل (أُكتوبر)1944، تمكَّن داهش من العودة سرّاً إلى بيروت، واحتجب في منزلٍ يبعدُ مئتي متر عن قصر الرئاسة. وفي 5 أَيَّار (مايو) 1945، صدر قرارُ مجلس الشُّورى بعدم إعادة الجنسيَّة إليه، ففقد كلَّ أَملٍ باسترداد حقوقه بالوسائل القانونيَّة، وأَعلن للتوّ حرباً قلميَّةً على مُضطهديه، دفاعاً عنها. وقد استمرَّت تلك الحربُ ثماني سنواتٍ ونيِّفاً وأَسفرت عن 66 كتاباً و165 منشوراً أَسود أَوضح فيها حقيقة قضيَّته العادلة، وكَشفَ النقاب عن مظالم الرئيس وأَعوانه. وكانت تُطبعُ سرّاً، وتُوزَّعُ على الرأي العامّ والسفارات والقنصليَّات والمؤسَّسات الدوليَّة لحقوق الإنسان والملوك والرؤساءِ العرب. وكان معظمُها يَصدرُ باسم ماري حدَّاد إمعاناً في إحراج الرئيس وزوجته لور. كما صدرَت كتاباتُها المتعلِّقة بالقضيَّة في كتبٍ عدَّة. ولم تتوقَّف تلك الحرب إلا بعدما قامت ثورةُ الشعب اللبنانيّ وأَسقطت الرئيس الخوري عن سدَّة الرئاسة، ووضعَت حداً لطغيانه في 18 أَيلول (سبتمبر) 1952!
تذكرُ ماري حدَّاد في إحدى رسائلها أَنَّه، فور صدور قرار مجلس الشورى المُجحف، تمَّ توزيع الكتاب الأَسود الأَوَّل «أَنا أَتَّهم»، على الشعب اللبنانيّ، كما جرى توزيع كتبٍ سوداءَ أُخرى في الأَيَّام التي تلَته. وتذكرُ أَيضاً أَنَّه، بتاريخ 15 أَيَّار (مايو) 1945، صدرت مذكِّرةُ توقيفٍ بحقِّها بحجَّة نَشْرها تلك الكتب، لكنَّها نُقلَت في اليوم التالي إلى «العصفوريَّة» حيثُ احتُجزَت في الجناح المسمَّى «أَميركا» المُعدِّ للمرضى العقليِّين الحقيقيين. كان المستشفى، آنذاك، تحت سيطرة الجيش البريطانيّ، وقد أَصدر رئيسُه، الإنكليزيُّ الجنسيَّة، ر. ستيوارت ميلر، تقريراً كاذباً عن وضعها العقليّ إرضاءً لرغبة رئيس الجمهوريَّة. فأَمضَت في «العصفوريَّة» 73 يوماً اكتشفت في أَثنائها وجود سيِّدةٍ من آل «طرباي» مع ابنتَيْها مُحتجزاتٍ فيه منذ قرابة سبع سنوات، وجميعُهنَّ في حالةٍ عقليَّةٍ سليمة. علمَت منهنَّ بأَنَّ قريبهنَّ الشيخ سليم الخازن هو الذي زَجَّ بهنَّ فيه بالظُّلم، بالاتِّفاق مع بشارة الخوري، شريكه في مكتب المحاماة، من أَجل وَضْع اليد على ثروتهنَّ الكبيرة التي ورثْنَها عن ربِّ الأُسرة!
لعلَّ التاريخَ لم يقرأْ بَعدُ مذكِّراتٍ كتلك التي كتبَتْها ماري حدَّاد عن الأَيَّام التي قضَّتها في «العَصفوريَّة»! ففي رسالةٍ بعثَت بها إلى مُمثِّل النيابة العامَّة في محكمة البداية، بتاريخ 29 أَيَّار (مايو) 1946، تصفُ بعض مشاهداتها ومعاناتها في «العَصفوريَّة»، فتقول: «جميعُ الغُرف في جناح «أَميركا» ملأَى بالمرضى، وجميعُ الأَبواب مشرَّعةٌ على الممرِّ نفسه. فالحياةُ هناك مشتركة. وهذه الحياةُ المشتركة مروِّعةٌ لكلِّ مَنْ لم يَعرفْ مستشفى للمجانين: وجوهٌ شاذَّة، مُقلٌ مُمدَّدة، عيونٌ زجاجيَّة تُحدِّقُ إليك حتَّى الاستحواذ عليك. صُراخٌ، ضحِكٌ، بُكاءٌ، نُواحٌ، غناءٌ، عواءٌ، أَصواتٌ وحشيَّة تَصدرُ من معارضَ للوحوش أَو البشر، لستُ أَدري. نداءَاتٌ بائسة، أَنَّاتٌ وشهقاتٌ ليل نهار، حالاتٌ من الاستنفار المُباغت أَو اليقظات المفاجئة، صيحاتٌ متوحِّشة. تدخُّل المُمرِّضين الذين يُلبِسون المرضى قُمصان الإرغام. مريضةٌ تتمدَّدُ على الأَرض مُعترضةً الباب: قميصُ الإرغام. أُخرى تحاولُ أَن تَخنقَ نفسها: قميصُ الإرغام. انتحارٌ في الجناح المجاور... مجنونةٌ أُخرى تسحبُ حذائي، تنتعلُه وتذهب. يُستعادُ منها فتَصرخ: قميص الإرغام. مجنونةٌ تركضُ نحوي، فأَرجعُ إلى الوراءِ مروَّعةً، فتُحاولُ أَن تنتزعَ خُفَّيَّ من رجليَّ. ظننتُ أَنَّها تريدُ أَن تخنُقني... منهنَّ مَنْ يَفُحنَ روائحَ نتانة، ومَنْ يَبصُقنَ، ومَنْ يَسعُلنَ لأَنَّهنَّ مُصاباتٍ بالسِّلِّ الرئويّ... جوٌّ مُفعمٌ بالهَلْوسة. في كلِّ لحظة تسأَلُ نفسك ماذا سيَحدُث. وما يَحدُث هو أَنَّكَ مع المجانين، وهم في بيتهم! لأَقلِّ حركةٍ من الأَسرَّة أَو الكراسيّ يسقطُ البَقّ.


المراحيضُ تبعثُ على التقزُّز من جرَّاء شُحِّ الماء... إنَّه لأَفضلُ أَن تُطلقَ رصاصةً على إنسانٍ صحيح العقل من أَن تزجَّ به في بيئةٍ كهذه. جميعُ السُّجون خيرٌ من هذه الجحيم؛ فالوجوهُ فيها عاقلةٌ على الأَقلّ». في تلك الأَثناء، صدر منشورٌ أَسود طالبَ بإخراج ماري حدَّاد من «العصفوريَّة»، مصحوبةً بالسيِّدة طرباي وابنتَيْها، تحت طائلة التهديد بنَشْر فضائح أَحد المسؤولين! وعلى إثر ذلك، وفي 26 تمُّوز 1945، داهمَت قوَّةٌ من الجيش البريطانيّ مؤَلَّفةٌ من مايجور إنكليزيّ يُرافقُه خمسة ضبَّاط إنكليز منزل جورج حدَّاد، وأَجرت تفتيشاً دقيقاً فيه، وبعثرَت أَثاثه، ومزَّقت فُرُشه، بحثاً عن الوثائق، موضوع تلك الفضائح. ولمَّا لم تجد لها أَثراً، غادرت المنزل، وأُعطي الأَمر للدكتور ميلر بإطلاق سراح ماري حدَّاد من «العصفوريَّة»، فخرجت منه في اليوم التالي 27 تمُّوز 1945، ولحقَت بها النسوةُ البريئات. وقد عُدَّ ذلك انتصاراً لماري حدَّاد الصابرة المُحتسِبة التي كانت تحملُ صليبها في كلِّ يوم من أَجل الحقيقة والعدالة! بعدما خرجَت إلى الحرِّيَّة، لم تُوفِّر أَحداً من الفاسدين في البلاد، مهما علَت مقاماتُهم، من ضربات قلمها المُزلزِلة، وفي مقدَّمهم أَقربُ المقرَّبين إليها. ففي 18 شباط (فبراير) 1947، بعثَت برسالةٍ إلى شقيقها ميشال شيحا تواجهُه فيها بما اقترفه بحقِّ أَبناءِ الوطن، قائلةً: «أَكتبُ إليكَ لتكون هذه الرسالة شهادةً علنيَّةً بيني وبينك! أَتُريدُ أَن تعمل للخير العامّ بدل أَن تطعنَ أُناساً شُرفاءَ في ظُهورهم؟ أَلا اذهبْ وانظُرْ ماذا يعملُ شركاؤكَ وأَهلُكَ بتبرُّعات «قرش الفقير» من أَجل مصلحتكم جميعاً. اذهَبْ وانظُرْ لماذا باعوا البنسلين بأَسعارٍ لا تَرحم. اذهَبْ وانظُرْ إلى أَيَّة جيوبٍ تذهبُ ملايينُ الليرات من صناديق الدولة.
كتاباتُها باتت مدرسةً في الحرب على الظُّلم والفساد والتعصُّب

أَيُمكنُ، بعد ذلك، أَن يُطلبَ إلى الموظَّفين الصغار أَن يُمارسوا وظائفهم مُمارسةً شريفة، وإلى رجال الشُّرطة والدرك أَن يسهروا على أَمن الشعب مُخاطرين بحياتهم أَحيانًا، بينما هم شُهودٌ للانحرافات والفساد عند الكبار؟ إنَّ بلدهم التاعس لا يُتيحُ لهم غالباً أَن يؤمِّنوا ضرورات العيش، إذا كان لديهم عائلة، أَو أَن يُرسلوا أَولادهم إلى المدارس! لم تكن الجريمةُ يوماً في لبنان بهذه الكثرة، ولا السرقاتُ بهذا العدد، ولا اختلالُ الأَمن في مثل هذا الشمول، ولا الفسادُ في مثل هذا الانتشار!».
وفي عام 1950، بعثَت برسالةٍ إلى صهرها رئيس الجمهوريَّة وشقيقتها لور، قائلةً: «يَظهر أَنَّكما لم تكتفيا بالتنكيل بي، ووَضْعي زُوراً واقتساراً بالعصفوريَّة وبالسِّجن. ويَظهر أَنَّكما تنويان أَن تُطبِّقا معي الخُطَّة التي نفَّذتموها مع أَنطون سعادة، إذْ اعتقلتم أَفراد حزبه، وزجَجْتم بهم في السجون، ثمَّ اغتلتموه، وادَّعيتم أَنَّكم أَعدمتموه بناءً على قرار المحكمة. وبهذه المناسبة، أَخبروني: هل أَنا هي التي زوَّرَت انتخابات مجلس نوَّاب 25 أَيَّار المعروفة؟ وهل أَنا التي اقتنَيتُ عشرات السيَّارات دون أَن أَدفع عنها الرسوم الجمركيَّة؟.. ثمَّ هل أَنا التي أَثرَيتُ وأَصبحتُ أَملكُ الملايين من شركة التُّرابة، أَم هو فؤاد الخوري شقيق بشارة؟».
قبل ذلك بسنوات، كانت ماري حدَّاد قد أَصدرَت بياناً إلى أَبناءِ وطنها، قائلةً: «قبل أَن يعود الحقُّ إلى نصابه، لن تفترَ لنا هِمَّة، ولن نعرفَ معنى للراحة. إنَّنا لا نُريدُ أَن نُحكَم بواسطة عصابات الشوارع، ولا نرضى بنظامٍ قائمٍ على الإرهاب؛ فسلاحُنا من اللَّه، وباللَّه ينتصبُ ميزانُ العدل. أَمَّا الذين يستعملون الظُّلم والاستبداد، والذين يشاهدون الظُّلاَّم ولا يردعونهم، فعليهم جميعاً أَن يعلموا أَنَّ عين اللَّه تَحدُجهم، وأَنَّ عقابهم سيكونُ رهيباً». ولقد صدقَت ماري حدَّاد وعدَها. ونزل العقابُ الإلهيُّ بالظَّلَمة فجعلهم هباءً منثوراً! أَمَّا كتاباتُها التي خلَّفَتها للأَجيال، فقد باتت مدرسةً في الحرب على الظُّلم والفساد والتعصُّب تتعلَّمُ منها الشعوب دروسَ البسالة في مواجهة الطُّغيان، وعدم الاستسلام للجبانة المَعيبة والتخاذُل!

* كاتبٌ لبنانيّ مُقيم في كندا