قبل هذا العمل، حضرت بيروت بقوة في عدسة المخرجة المعروفة، لكن الغريب أنّ فيلماً حمل عنوان العاصمة اللبنانية، لم نرَ أيّ أثر لها فيه! لم ترَ عيوننا بيروت، ولا أبناءها، ولا أبنيتها ولا شوارعها. يدّعي الشريط أنّه يتحدث عن ثورة، أو انتفاضة أو تحركات 17 تشرين الأول، وأنه «أول فيلم ينقل ما حدث إلى الشاشة الكبيرة»، لكنّ المصري أفرغت هذا التاريخ من محتواه وخلفياته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وحوّلته إلى ما يشبه الاحتفالات الشعبية في الساحات العامة. لم نرَ الانتفاضة ولا أسبابها ولا نتائجها. لم تقُل لنا المصري أي شيء طوال الفيلم!
بدأ الشريط وسط التظاهرات ثم راح يعرّفنا بالشخصيات الأربع الرئيسية: الفنانتان ميشيل ونويل كسرواني، والصحافية حنين رباح، وصانعة الأفلام العراقية المقيمة في لبنان لجين جو. أربع شابات ممن شهدن الانتفاضة الشعبية وعشنها واختبرنها. حكين لنا عن معاناتهن، وأحلامهن، وأسباب مشاركتهن أو انسحابهن لاحقاً من التظاهرات وطبعاً عن مهنتهن. نبقى مع الشابات طوال مدة الفيلم، لكن بدون أن نشعر بأي تعاطف أو اهتمام أو حتى فكرة ثابتة يُبنى عليها.
بدأ الشريط وسط التظاهرات ثم عرّفنا بأربع شابات ممن شهدن الانتفاضة الشعبية وعشنها واختبرنها
لا موضوع محدداً في الفيلم، بل مجموعة خواطر لا علاقة لها ببعضها حُشرت تحت مظلة الانتفاضة لصنع وثائقي لا يضيف شيئاً. نشعر بالكثير من المبالغة و«المسكنة» وتضخيم القصص بشكل مصطنع، ما أدى إلى تسخيف القضية (أذا أردنا أن نقول إنّ الفيلم يتحدث عن 17 تشرين). بدا الشريط و«بطلاته» متعاليين، كأنّنا بهما يصدحان عالياً بـ«الأنا». أكثر من نصف الفيلم، تتحدث الشابات عن أنفسهن، ويتحول الاهتمام الرئيسي من الثورة إلى حياتهن بعد الانتفاضة، خلال جائحة كورونا وطبعاً بعد انفجار 4 آب.
في الخلاصة، قدّمت مي المصري فيلماً غارقاً في المتاهة، مدفوعةً ربما بالاستعجال وبهاجس تسمية فيلمها «أول شريط عن الثورة». مسار الفيلم الزمني مضعضع، يبدأ مع الانتفاضة ثم يأخذنا أربعة أشهر بعدها، وفي الوقت نفسه نرى الشابات في وسط بيروت أو محجورات بسبب جائحة كورونا أو مسافرات، ثم فجأة يحضر انفجار 4 آب. وهنا الطامة الكبرى. لم ترَ المصري أيّ حرج في أخذ مشاهد الانفجار والدماء والأهوال ووضعها في الفيلم بطريقة فجة، بدون تقديم تبرير أو خلفية أو حتى تعليق بسيط.
لم يقدّم الفيلم فكرة واحدة عامة. حتى الشابات ناقضن أنفسهن مراراً. كيف يمكن أن يتحدثن عن ثورة، ويشاركن في فيلم عنها، ثم تقول إحداهن إنّ الثورة لا تمثلها ولا تجد نفسها فيها، وأنها فقط تحولت إلى مجرد مراقبة فيها! تركت المصري شخصياتها تتحدث عن كل شيء وأي شيء، مما أبعد الفيلم عن «موضوعه الرئيسي». ترنّح مراراً من العام إلى الخاص ثم العام جداً مع الانفجار من دون أي خيط أو مسار واحد يربط كل ما يُقال أو يُرى ببعضه.
في «بيروت في عين العاصفة»، لا صورة ولا لون ولا رائحة ولا صوت ولا موضوع ولا شخصيات. قد تكون الشابات قدمن الكثير، والانتفاضة والانفجار تركا بصمتهما العميقة عليهن طبعاً، ولكننا كمشاهدين لم نرَ شيئاً من هذا. لم تتعمق مي المصري لا في موضوعها ولا في حياة الشابات، بقي الفيلم خارج كل شيء مع الكثير من الحشو: مشاهد التظاهرات رأيناها عشرات المرات في نشرات الأخبار، الكلام المنطوق سمعناه آلاف المرات. خمسة وسبعون دقيقة من لا شيء، وفوق هذا اللا شيء، يأتي مشهد انفجار الرابع من آب! «بيروت في عين العاصفة» وثائقي مبكر جداً ومتأخر جداً. مبكر في حديثه عن الثورة (لأنّ الحديث عنها يتطلّب مسافة زمنية معقولة والكثير من البحث في الخلفيات والسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية)، ومتأخر جداً لأنّنا اليوم في لبنان بتنا في مكان آخر كلياً. في كل الأحوال، قريباً ستنهال علينا أفلام كثيرة عن هذين الحدثين، والخوف كل الخوف أن تكون نسخاً معدّة للاستهلاك السريع!
مخرجون في قلب الزلزال
بالشراكة بين «بيروت دي سي» وIMS، اختير خمسة مخرجين لبنانيين تأثروا بشكل مباشر بانفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، للمشاركة في مشروع يقارب هذا الزلزال. أما المخرجون، فهم سارة قصقص، إيلي داغر، جان كلود بولس، لوسيان بو رجيلي، وبانوس أبراهاميان. وعلى أن تعرض هذه الأفلام على موقع www.aflamuna.online خلال شهر آب (أغسطس).