بطريقةٍ ما، كنّا إزاء «قصة موت معلن» باختلاف بسيط يتعلق بأمجد ناصر (1955- 2019) نفسه، أول من أعلن بأنه ذاهب إلى موتٍ وشيك، ذلك أن تقارير الأطباء لا تحتمل تزييف الحقائق. كما أن لعنة السرطان لا تحتمل المزاح، السرطان «صائد الغفلات اللعين». على وقع هذه التراجيديا، كتب الشاعر الراحل مرثيته الأخيرة «مملكة آدم» بأقصى طاقته على النزيف وشخب الدم وطبقات الجحيم الدنيوي، فيما توشك الروح أن تحلّق عالياً في رحلتها النهائية. ما حدث لاحقاً، بتأثير الصدمة والفجيعة والفقدان، أن أنصتَ صاحب «مرتقى الأنفاس» إلى مراثي الآخرين له بما يشبه بروفة جنرال لانطفاء الجسد فوق الخشبة. هكذا غادر لندن عائداً إلى هواء صحراء المفرق، ليدفن في مسقط الرأس باحتمالات طفيفة للنجاة. لم تكن الصورة الأخيرة له تشبه أمجد ناصر، ولا حتى صورة الفتى البدوي يحيى النميري التي هجرها إلى مدن الغرباء باسمٍ مستعار. كان الوقت يعبر بجرعاتٍ مؤذية، وكان موعد الموت يقينياً، لكن الشاعر المريض قاوم بشجاعة، في الوقت المستقطع، غير عابئ بأن يذهب إلى تأبينه حيّاً على كرسي بعجلات. مشهد فجائعي لم تنقذه التكريمات والجوائز والأوسمة، في استدراكٍ متأخر لأهمية هذا الشاعر المتفرّد حقاً، الشاعر الذي حدّق بالموت بتمام صلابته وكتب مرثيته بحبرٍ صافٍ، مذكّراً إيانا بمرثية مالك بن الريب، بفارق أن أمجد ناصر كان قاطع طريق شعرياً، لا قاطع طريق وحسب. ما هو مؤكد أنه أنجز أكثر من غزوة شعرية مفارقة، زلزلت طمأنينة الطريق ورتابة الإيقاع وأسباب السفر، لجهة التوقيت والكشوفات البلاغية والبصمة الشخصية في نحت المفردة وصقل العبارة ولمعان المعنى. كان الشعراء السبعينيون ـــ شاعرنا أحدهم ــــ أسرى أوهام مختلفة عمّا استهلكه الستينيون بخصوص الهزيمة وفداحة الخسارة وأنماط الحداء في المدن المتصحّرة. أتى أمجد ناصر بهجرة معاكسة، وتجربة شعرية لا تنقصها المغامرة في خلخلة الإيقاع، قبل أن ينقضَّ بجناحي نسر نحو قصيدة النثر، ولكن بسكة محراث مختلفة، في اكتشاف الكنوز المدفونة تحت الصخور. نبرة بدوية في مقاربة أسئلة المدن المعدنية، من دون أن يهدر حنجرته بالهتاف، رغم انخراطه في المنظمات الفلسطينية كخيار ايديولوجي مقاوم. بقيت قصيدته، ديواناً وراء آخر، في منأى عن الأعشاب الضارة التي غزت حقل قصيدة النثر ووضعتها في مرمى التماثل لفرط تكرار التفاصيل ذاتها، بصرف النظر عن أسماء شعرائها، ههنا بذور مختلفة ومدهشة ومشغولة بعناية، من دون أن تفقد إيقاعها الداخلي باستراتيجيات تنهض على الحذف والكثافة والمفارقات البلاغية. قصيدة نتوءات لا أرض مسطحة، ابتكرها صاحبها على مهل، ليشق طريقه بعيداً عن السرب، باستصلاح حفر الطريق وترميمه بما يكفي الرحلة إلى بريّة أوسع، وانزياحات لغوية تضيء بجسارة ألغاز العاطفة في احتداماتها واندحاراتها، بجرعات جمالية آسرة تغذّي المتن الشعري بنكهة لاذعة. لن نهمل إذاً باكورته الشعرية «مديح لمقهى آخر» كمفتتح لمغامرة أرادت أن تدير ظهرها باكراً لما هو مُداس قبلاً بأثر أقدام الآخرين وبلاغتهم المستقرة، فوقف عند التخوم مستكشفاً المشهد العمومي كي لا يعبر الطرق ذاتها نحو التفاح المحرّم. وإذا به يخترع بوصلته الخاصة في معرفة الجهات كقاطع طريق بسكين من حرير وأصالة وشم بدوي، وشهوة فارسٍ جوّال، بغنائية تتكئ على معرفة عميقة بالموروث الشعري القديم ومقترحات الحداثة، وتقطيرها لاحقاً إلى أكسير شعري يخصّه وحده. أكسير يعتني بالظلال، بلحظة الهجران والمغادرة، كأنه يعمل على ترميم الأسى وتوثيق الأفول، على الأرجح بسطوة الترحال بين الأمكنة، و«خبط الأجنحة»، وتذكارات الأرض الأولى وهي تنأى بعيداً بكامل أسباب الفقدان.
لا يكتفي صاحب «رعاة العزلة» بترحال المعنى، إنما ما انفك يرتحل من فضاء جمالي إلى آخر مطوّراً تقنيات قصيدته وتزييت عجلاتها التعبيرية بين مسافةٍ وأخرى. في ديوانه «سُرَّ من رآكِ» (1994) سيباغتنا بإيروتيكية غير مسبوقة في هبوب قصيدة الجسد، بالاشتغال على المتواري والمتوثب في عمل الحواس، واكتشاف كنوز الشهوة والرغبة بسبكٍ صارم ورصين، مؤسساً أطلساً شعرياً في الغواية، وخرائط حسيّة بأقصى حالات المكاشفة والاعترافات والإحالات وقوة المجاز «وإذا رأى ما رأى/ أطرقت/ وضمّت/ وجهلت/ اجلسي/ أرجوك/ بهذين الحقلين المحروثين/ بقرني ثور سأضمن القطاف/ اجلسي/ وباعدي/ قليل من الهواء للغصن المنحني بكمثراه».
نبرة بدوية في مقاربة أسئلة المدن المعدنية، من دون أن يهدر حنجرته بالهتاف، رغم انخراطه في المنظمات الفلسطينية كخيار أيديولوجي مقاوم

الانعطافة الثانية في مشغل أمجد ناصر الشعري تتمثل في كتابه «الحياة كسرد متقطع» (2004)، ههنا يقوم بما يشبه الانقلاب على اشتغالاته السابقة متلمساً جماليات السرد في إثراء نصوصه، والمجازفة بمناوشة الشفوي والمحكي والموروث ودسّه في المتن بضربات إيقاعية متوترة تتيح له توسيع تخوم حقله خشية استنفاد متطلباته الجمالية السابقة، وكذلك الحذر من طول الإقامة في الفضاء نفسه، فكان أن فتح ثغرة نحو خطاب آخر يحمل الدهشة ذاتها التي خبرناها في شعره. هذا التحوّل، أو الانقلاب منح تجربته جرعة إضافية في الفرادة وتأصيل المتن بما هو ذاتي ومهمل ومنسي «لا أعرف كيف متى وصل إليّ هذا الكتيب الموسوم بـ«ديوان الإمام شهاب الدين السهروردي» الذي بدا، عندما رأيته في مكتبي أول مرة، كخطأ مطبعي كبير، ولكن ما أن فتحته حتى شممت رائحة دم جاف ثم ما لبثت أن رأيت يداً مقطوعة راحت تنزف، ثم كأنني رأيتها تتحول منديلاً طارت به هبة ريح مفاجئة». أما الحركة الثالثة في تجربة صاحب «وصول الغرباء»، فتتمثل في عمله الأخير «مملكة آدم» (منشورات المتوسط ــ 2019) باستنفاره أكثر من معجم في ترتيب متطلبات رحلة العودة إلى إيثاكا الفجيعة، مستثمراً الميثيولوجيا والأسطورة والروح الملحمية في توصيف الألم البشري وأسباب الطغيان برؤية كونية تستنطق الذات وأهوال المأساة بفجيعة عالية: «أنا نبيٌّ من دون ديانةٍ ولا أتباعٍ. نبيّ نفسي. لا ألزم أحداً بدعْوتي، ولا حتّى أنا، إذ يحدث أن أكفر بنفسي، وأجدّف على رسالتي. نبيّ ماذا؟ ومن؟ لا أعرف شيئاً في هذه الظّلمة التي تلفّني. لا أحمل صليباً على ظهْري، وليس لي ناقةٌ تنشقّ من الصخر. أتلمّس طريقي بالضوء الصادر من عينيّ، ولا أرى يدي التي تلوّح لجموعٍ وهميةٍ، تموج تحت سفح الجبل» يقول.
رحل أمجد ناصر «وحيداً كذئب الفرزدق»، لكن نصوصه ستبقى علامة ترشد التائهين والغرباء إلى ما يؤنس وحدتهم، وما يوقظ الأسى في ضلوعهم، وهم يستنشقون رائحة «شقائق نعمان الحيرة».