كان أمجد ناصر، منذ بداياته، مع ديوانه الأول، شاعرا ناضجا ومكتملا، قادما من تجربة طويلة وعميقة في القراءةِ، رغم فتوة ابن الـ 24 سنة آنذاك، قراءةِ المتن الشعري التراثي والحديث، عَرَبِيِّهِ وغَرْبِيِّهِ، فسرعان ما أسس — بتأثر وتحفيز من سعدي يوسف، الذي اسْتَنْبَتَ بدوره في العربية، نصا وترجمةً، تقنيات وأسلوبية الإغريقي يانيس ريتسوس — لما صار يُسَمَّى في الشعر والشعرية العربية مدرسة التفاصيل اليومية، قصيدة المشهد اليومي. سيعرف بعدها شعر أمجد ناصر طفرات عديدة بتجريبه موضوعة القصيدة الأيروتيكية، ثم استعادة المكان الأندلسي، لينتهي بالرسو على شكل ما سيُسمِّيه "قصيدة الكتلة"، غير المضبوط نقديا، في محاولة للانزياح على مصطلح "قصيدة النثر" الضبابي والخِلَافي في الممارسة الشعرية عربيا. سمح انتقال أمجد ناصر لشعريات النثر، بتواز مع كتابته لليوميات والرحلات، ببلورة جماع كل هذه الأنواع الأدبية بكتابة ثلاث روايات لا تقل في قيمتها الفنية عن شعره. أما ديوانه الأخير، "مملكة آدم"، الذي استلهم فيه جحيم دانتي لصوغ سرديته الشخصية للطوفان السوري، فينبغي مقاربته باستحضار مفاهيم نظرية الإنتاج الأدبي [الانحياز السياسي للشاعر، الوسائط الإعلامية التي يشتغل فيها، ناشر النص، السياق الإيديولوجي لتسويق الكتاب والترويج له]، لاستخلاص أن سرديته كانت متحيزة لا لعذابات الإنسان في سوريا، بل لرؤية مختَزَلَة لم تستحضِرْ كل الوحوش التي استُقْطِبَتْ وجُلِبَتْ إلى الأرض السورية. سيبقى شعرُ أمجد ناصر فتيا طازَجا لأمد طويل، متقشفا في لغته المادية المحتفية بالأشياء والمحسوسات. وستفتقده، لا القصيدة العربية فحسب، بل كل الصحافة الثقافية التي رَفَدَها بزخم كبير ضمن حيز صُحُفٍ بيروتية، قبرصية ولندنية، بحيثُ وَضَعَ الأدب والفكر، نصا وترجمةً وحواراتٍ، في نِدِّيَّةٍ مع صفحات السياسة والخبر والرياضة والاقتصاد. هذا الملف تحية لذكرى أمجد ناصر الذي رحل عنا مساءَ هذا الثلاثاء بِعَمَّان، بعد معاناة مريرة مع المرض اللعين
مديح لمقهى آخر، 1979

1. مقهى آخر [مقطع]
بوسعك،
أنت الذي لا يكل من الارتهان
بوسعك أن ترحل الآن:
لا وجهة
لا حقائبَ
لا ماء في جرة العُمر
لا زوجة في الثياب النظيفة
لا مطرا في المسالك
لا نجمة في الفضاء الذي يكسرُ الظَهر
منذ انحسار الرضا
صحيح!
ولكنه كفن واحد ثم ترتاح!

2. الجبل [مقطع]
لكَ الآنَ أن تشربَ القهوةَ الرائقةْ.
وتذكّرْ:
كنتَ تغسلُ كفّيكَ بالثلجِ
والبندقيةُ في الكتفِ مائلةٌ
والصباحُ صغيرٌ على "المتن"
حينَ استدرتَ إلى الخلفِ
عانقتها،
كالعصافيرِ زرقاءَ،
قبلّتها،
في الفم المستثير،
الفم المشتهى.
وثبتَّ في مَفّرقِ الشَّعر،
فجراً،
قرنفلةً
من دماء الرفاق.
تلكَ كانت تناولُك الطلقاتِ،
"البيانَ الشيوعيَّ"،
تقرأُ "إيلوارَ"،
كانت تترجمهُ لغةً من تُراث البنادقِ والشِّعرِ.
تُفْتَحُ نارُ المواقعِ واسعةً،
فتخبئُها بين صدّركَ
والسّترةِ العسكرية.
كانت تطاردُ خصلتها بعد أن
يرفع القصفُ كفّيهِ
لكنها،
حين تطبقُ كلُّ الجهاتِ
شجراً ترتديهِ العساكرُ
تبصرُ رتلاً من القبعاتِ
وتبصرُ نهراً من القبعاتِ
وتبصرُ أرضاً
تحُاصرُها
القبعاتُ.

3. الذهب [قصيدة إلى سعدي يوسف]
بأيدٍ توهجَ فيها الذهب
يحملونُ الحقائبَ .
جلدُ الحقائبِ
ينبتُ فوقَ ظهورِ الجياد
وهم يقتلونَ الجيادَ
لصنعِ الحقائبِ والقبعات.
بيروت، 1978/

منذ جلعاد كان يصعد الجبل، 1981

أصَيصٌ
هذا ما تريدُه، إذن:
بندقيةَ الصيِّدِ
وسَرجَ الحصانِ
وصرُّةَ التبغِ المعلقةَ في السّقفِ.
هذا، إذن،
ما دعاكَ إلى العودةِ
خُذ أيضاً
حزمةَ الأوراقِ الملونةِ
فما تزالُ تصلحُ لإشعالِ الحطب
وأدواتِ الحلاقة - تلك - التي على الرَّفِ
وسترةَ الجِلدِ..
وأيضاً زجاجاتِ النبيذِ المطمورةَ في القشِّ،
لا تأسَ
فأزهارُكَ تنبتُ، الآن،
في أصّيصٍ آخرَ.
بيروت، نيسان 1980
سُرَّ من رآكِ، 1994

تعْزيم
يدك الْجاهلة على الرّكْبة الْبيْضاء بيْضاء
ألساّمقان أبْيضان ولوْح الصّدْر أبْيض
نهْداك الْجافلان بيْضاوان
وبيْنهما برْزخ أبْيض
قبّتك بيْضاء وسفْحها أبْيض
نوْم الْبنفْسج بيْن رخامتيْن بيْضاوينْ أبْيض
حقْواك الْهضيمان أبْيضان
وانْثناؤك أبْيض
مشْيتك بيْضاء ومجالها أبْيض
قميصك الْمتْروك كيْفما كان أبْيض
ورائحتك فيه بيْضاء
لمْستك طرف الْوصال بيْضاء
وتنمّرك في السّرير أبْيض
شهْقتك بيْضاء
ودمي الّذي تسْفكين
أبْيض أبْيض.


حياة كسرد متقطع، 2004

1. حديث عادي عن السرطان
[إلى صالح العزاز]


I
كلما تذكرنا صديقاً راحلاً لاحظنا أنه أصيب به.
أتري؟ لا أحدٌ يموتُ في محيطنا هذه الأيام بغير السرطان، صائد الغفلات اللعين. قلتُ هذا للصديق الذي أخبرني عن صديقٍ آخرَ تسللَ إليه السرطانُ وهو يفكرُ بمنظورٍ أهلي للصحراء.قال إن صديقنَا المشتركَ شعرَ فجأةً بصداعٍ غيرِ عاديٍ فأخذوه إلي المستشفي فوجدوا الورمَ الخبيثَ متمكناً من الدماغ فاستأصلوه، ثم أخضعوه للعلاج الكيماوي الذي حَتَّ شَعْرَ رأسه ورموشَه وحاجبيه حتى صار له وجهُ طفلٍ رضيعٍ معتلٍ، ثم مات صامتاً، محدقاً بمن حوله بذهولٍ غيرِ مصدقٍ أن الأمر كلَه بدأ بصداعٍ زائدٍ عن الحد قليلاً، بانسحاب داخلي بسيط، فمن الخارج ما زال في كامل عدته وعتاده.صَمَتَ ثم قال: أتدري أن أخي الأكبرَ ماتَ بالسرطان في الأربعين من العمر؟ فأخبرتُه أن أمي أيضاً، باغتها السرطانُ مرتين، الأولي في حدود الخمسين فأمهلها عشرَ سنين ثم صارعته في الثانية سبعةَ أشهرٍ من دون أملٍ يذكرُ، والمشكلةُ أنني قرأتُ لا أدري أين أن الإنسانَ يموتُ كما يموتُ أهلهُ.
تهيأ لي أنه تَحَسَّسَ رأسهَ فقلتٌ له بما أنك تجاوزت الأربعين فمن الجائزِ أن لا تنطبقَ عليك القاعدةَ، أما أنا فالاحتمالُ ما يزال يُدوّزنُ أوتاره الرهيبة أمامي.
سألني كيف أحبُ أن أموت. فقلتُ له: بالقلب، وأنا نائمٌ علي سريري وفي الصباح يجدونني ميتاً. فوافقني الرأيَ قائلاً إن السكتةَ القلبيةَ هي، علي ما يبدو، الطريقُ الأقصرُ والأقلُ ألماً للموت، فليست لدي شجاعةُ أخي الذي رفضَ العلاجَ الكيماويَ وظل بكامل شعره يدخنُ إلي أن لفظَ أنفاسَه الأخيرة.
صَمَتَ فترةً أطول ثم قال: هل أنت متأكدٌ أن الإنسانَ يموتُ كما يموتُ أهلُهُ؟
فقلتُ: لا أدري!

II
لست متأكداً أيضاً أن الشعراءَ قادرون علي التنبوء بموتهم رغم أن سيزار فاليخو ماتَ في باريسَ وفي يومٍ ماطرٍ، تماماً، كما تنبأ بقصيدته حجرٌ أبيضُ علي حجرٍ أسودَ ، وأنا أتوقعُ في هذه القصيدةَ التي أكتبُها الآن أن أموت بلندنَ في يومٍ ماًطرٍ(يومٍ ماطرٍ في لندن؟ يا لها من نبوءة!) موصياً، منذ اللحظةَ، أن أدفنَ بالمفرق قربَ أمي التي ماتتً وهي مقتنعةٌ أنه لن يضمَنا حيزٌ ذات يوم.
فالجميع يعلمُ أنها ستذهبُ إلي الجنة التي لن تطأها قدماي!
لندن، خريف 2001

إشارات: صالح العزاز صحافي ومصور فوتوغرافي سعودي.سيزار فاليخو شاعر بيروفي كبير تنبأ بموته. [أمجد ناصر]

2. القلعة
جسدُكِ قاطعٌ كالكلمةِ التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نرداً، كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثراً.جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلى درجٍة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم الذي يمهد الطريق إلى طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيّقة يمكنُ للخشخاش أن يذرّ بقرنه.
جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ كعين الحسود ولكنني بأطوال نايات أسلافي أدخلُ وأجدُ ريشاً ملوناً وعظاماً ليّنةً ولا أصلُ إلى ما أخفاه اسمُكِ عندما تقدم إليَّ بجرسه الآمرِ.
جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ يقرّبُ خدماً وأوباشاً من جاهلي إعجازه ويغلقُ قلعتَه على نفسه.
كلما رأى علامة، 2005

1. قسمة
حِصّتي بين سيّافين هواءٌ مشطور.

2. دليل
الأعمى يعرفُ أنَّه في حمِاكِ.
لا البصيرةُ
لا اليدُ
لا الرائحةُ
لا الحفيف دَلّهُ
بل الضوءُ الذي فضَّضَ
محجريه المُظلمين.

بيروت صغيرة بحجم راحة اليد، 1982-2012
10 حزيران 1982. للنساء اللواتي يظهرن في الشرفات ويتحركن في دواخل الغرف بثياب النوم رائحة ألفة أفتقدها. هن اللواتي يعطين للحياة معنى. مجرد وجودهن إشارة إلى أن الحياة لا تزال متواصلة رغم كل شيء.
■ ■ ■

27 حزيران 1982. ليس هناك مكانٌ لم تصله أنفاس التنين المحرقة [..] رغم ذلك، شاهدت امرأة من نافذة مقابلة لبناية الحمرا سَنْتْرْ تتزين أمام المرآة مواصِلة التقاليد الأنثوية لزمن السلم.
■ ■ ■

28 حزيران 1982. من لا يخاف؟ ربما غالب هلسا. إنه رجل بلا أعصاب. بارد إلا حد الإزعاج. لعله الوحيد الذي لم أر علامة خوف أو توتر عليه حتى في أسوأ لحظات القصف.
■ ■ ■

3 تموز 1982. هذا الواقع أقوى وأشرس من أن تحتضنه القصيدة. تصعب معالجته بالشعر. أحد مصادر الشعر هو الكلام، وهذا لدينا منه الكثير. ولكنه ليس الشعر. ربما لا تصلح الانفعالات القوية للشعر [..] ظل سعدي يوسف محافظا على صوته الهادئ وتمسكه بالعين المدققة في المشهد، شعره يشبه شعر ريتسوس من هذه الناحية.
■ ■ ■

26 تموز 1982. كثيرون دبجوا قصائد عرمرمية وإنشائيات طنانة ونشروها في "المعركة" وغيرها من الصحف والمنشورات اليومية، ولكنني لم أفعل. استجابتي الشعرية ضعيفة أمام الحدث. الشعر انفعال بطيء ومكتوم، والحدث يتطلب انفعالا سريعا وظاهرا. أرى أن الضغط الذي نعيشه لا يمكن أن ينتج إلا نصوصا عديمة القيمة والتأثير، رغم أهمية التعبئة النفسية في مثل هذه الظروف.
■ ■ ■

26 تموز 1982. قبل أربعة أيام، زارنا أبو عمار على نحو مفاجئ. أمضى معنا أكثر من ساعتين. كان مرحا ورابط الجأش. توضأ وصلى وطلب منا إبرةً وخيطا ليخيط بنطاله المفتوق، فتسابق الشباب عارضين خدماتهم، لكنه رفض وقال مازحا: "أنتم متزوجون، والمتزوج لا يعرف هذه الأمور!"، خلع بنطاله العسكري وظل في الشورت الخليلي، رتق الفتق في بنطاله ولبسه. كلما جاء يخلع قبعته فيبدو شخصا آخر. إنه أصلع تماما وذو رأس أصغر مما هو عليه عندما يرتدي القبعة. تحدث مع الجميع تقريبا وسأل عن تفاصيل صغيرة. لا يمكنك إلا أن تقدر هذا الرجل الذي يجلس أمامك يخيط بنطاله بينما تبحث الطائرات الإسرائيلية عن مقره لتقصفه. ففي تلك اللحظة بالذات كان الطيران الإسرائيلي يبحث عنه ويقصف هنا وهناك. والمفارقة هي أن سلاح جو بأكمله يبحث عن رجل في مدينة محاصَرة ليقتله.
■ ■ ■

17 آب 1982. الخروج من بيروت أصبح في حكم المؤكد. مشاعرنا فاضت لتغمر المدينة المشظاة من كل جانب، المدينة التي شهدت صعود الحلم وانهياره، المدينة التي كوفئ الذين قاتلوا دفاعا عنها بالرحيل منها تاركين أصداء ضحكاتهم وخفقات قلوبهم على أرصفتها.
■ ■ ■

12 آب 1982. لابنتي ذات الأعوام الثلاثة التي لم أرها منذ القذائف الأولى التي سقطت على بيروت أقول: تذكري أنهم أخرجونا من شراشفنا ورموا بنا على أرصفة نائية. تذكري أنك رفعتِ رأسك فلم تَرَيْ في السماء سوى أسراب طائراتهم، وفي الأفق سوى دخان قذائفهم، وفي الأنحاء سوى اللحم يتبعثر. ولهذه السماء المسلطة فوق رؤوسنا كسيف من لهب أقول: النسيان ابن الأمس. الغضب أقوى من المغفرة.
■ ■ ■

22 آب 1982. البحر الذي أحببناه يوما وغمرنا أجسادنا الناحلة بزرقته المديدة تحول إلى شفرة تحز الروح. ها هو البحر أمامنا. إلى أين تمضي بكل هؤلاء أيها البحر؟ السفن رابضة مثل قلاع مبهمة، القلوب واجفة.. المصائر المقبلة أكثر غموضا من هذا البحر. أما جنود المارينز الذين جيء بهم لحراسة الرحيل فهم لا يفهمون شيئا مما يجري. يتطلعون إلى اللحظة التي يسدل فيها الستار على هذا المسرح العبثي ليعودوا إلى حيتانهم الحديدية.
■ ■ ■

1995. تعود إلي تلك اللحظة التي أُفْرِغَ فيها القلب من الخفقان عندما اندفعنا إلينا في قبو المجلس الثوري لحركة فتح غبارُ بناية أبو إياد المجاورة. رغم ماركسيتي وجدتني أنطق بالشهادتين! سيأخذ الرب وديعته عما قليل. لكنه، على ما يبدو، امتحن معدنها، رازها وتركها إلى حين.طلعنا بعدما خف القصف قليلا لنجد البناية متقوضة كعلبة من الورق المقوى. كان ذلك، على ما أظن، أول استخدام للقنبلة الفراغية.
■ ■ ■

ربيع 2012. أرى طائرات تسد السماء وشبانا يصوبون رصاصا يائسا على تلك القلاع الطائرة، ويطفو وجه امرأة تدأب على ممارسة زينتها أمام المرآة، وأشم أرغفة خبز ساخنة، كمعجزات صغيرة، بيد طفل يخرج من فرن في ساقية الجنزير، وتتراءى لي شراشف سرير طفل مزينة برسوم متحركة في بيت هجرته عائلته ولا أعرف إن كانت عادت إليه مرة ثانية.


ما لم ينشَر في كتاب

1. دسكرة
دسكرته ليست معروفةً بالرّمان ولا بشيءٍ آخرَ سوى أنها نورجٌ للقيظ والغبار ولكن عابثاً إلهُ الرّيح والمطر فَرَكَ كعبه هناك فطلعت شجرةُ رمانٍ كُتِبَ على حبَّاتها ألاَّ تكبر أو تصغر.
قطف لي منها حَبَّةً قبل أن يصعد السلّم الحجريَّ درجتين درجتين إلى القصر المهجور، لم يعلم أنني أنا سليلة إله الزراعة ذات الزندين المتموجين بحرائق الحصاد علَّقتُ رمانته الشقراء تذكاراً من اليد التي تلمَّست صدري العاري على الجدار جاهلةً بما ستنفخُ فيه من صورها الأحلام.

2. عدمُ اهتمام
تظنّ أنَّ الذين تمرّ بهم كوعلٍ مذعورٍ في لقطةٍ بطيئةٍ لا يرونك، فالبقّالُ يواصلُ رفعَ الأوراق النقديّة إلى عينيه الضيقتين للتأكّد من سريان المادّة التي تحفظها من الفساد، ومصففةُ الشَعر التي كانت فتاةَ غلافِ مجلةٍ محليِّةٍ في السعبينات تنحني على رؤوسٍ مُسنّاتٍ مستسّلماتٍ لمقصّها الغضوب والمشرّدُ الخلاسيُّ الذي يهرولُ بين محلِ الرّهانات وناصيةِ الشارع لا يتذكّر أنّك نفتَحه شيئًا في الذهاب فيطالبُك بحصّته التي قرَّرها، من جانبٍ واحدٍ، في جيبك المثقوب في الإياب، إنس، طبعاً، النادلة الحسناء التي تطلبُ منها يوميًا نفس كوب القهوةِ السوداء بقطعتينِ من السّكر، ولكن جرِّب أن تخرج عن هذا المدارِ قليلًا لترى كم كنتَ قريبًا من أنفاسٍ باردةٍ تركتْ ندبًا على جسدٍ تنساه، أحيانًا، في آخرِ قطارٍ يشقُّ الليل.


شهادات

1. عبّاس بيضون: في "مديح لمقهى آخر" العنوان الجميل لديوان أمجد الأول (أفضّل لسبب غير محسوم أن أقول مجموعته) ما يشعر بأن الشاعر وجد قصيدته تقريباً، أو وجد بذور قصيدته تلك من العمل الأول، وأرجّح أن في هذا "وعياً شعرياً" نادراً. تواصل يمكننا أن نعتبره للتسهيل، مشتملاً على قدر من وحدة، إذ لا يؤرقني مصطلح كالوحدة ولا أعرف مصطلحاً محيّراً مضللاً بقدره. للتسهيل، أقول تقرّباً من القارئ ومن ميراثه "النقدي".

2. سعدي يوسف: أعتقدُ أن الرجل زوى نفسَه عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعارَك، وظلَّ يطوِّرُ رؤيتَه وأداتَه، مستقلاًّ بنفسِه، لا يرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ. مُقامُه بأرض لندنَ، منحه مسافةً كافيةً وضروريةً، للنظر من بعيدٍ، ولتطويرِ النظر إلى الداخل. صار يطلّ بموضوعيةٍ على ميراث الشعر في العالَمِ، ويقارِن بين ما نفعله وما يفعله الآخرون من شعراء الأمم الأخرى، معتمِداً مدخلَه الخاصّ والخصوصيّ إلى ما نفعله وما يفعله الآخر. الفنُّ تعَلُّمٌ دائمٌ، مثل ما هو سفرٌ دائمٌ. وظلَّ أمجد ناصر يتعلّم. وبينا شُغِلَ كثيرون ببناء أبراجٍ من الملحِ، ظلَّ الرجل يشتغل بأناةٍ على بناء نصِّه الصعبِ والمختلف.


3. قاسم حداد: الذين يتذكرون قصائد أمجد ناصر في كتبه المبكرة، سيعرفون الدلالة القوية التي جاء الشاعر يتسلح بها ويتميز. وعندما كتبت منذ سنوات عن لغة أمجد ناصر الشعرية، إنما كنت أشير إلى هذا التألق الروحي الذي كانت قصيدته تمنحني إياه، مستمراً معي في ما بعد القراءة. كنت وقتها أزعم بأن الشعر هو ما يدفعني لإعادة قراءته ثانية بعد ذلك. نص أمجد يقترح عليك إعادة القراءة بقدر لا بأس به من الجمال، حيث تشعر بأنك لم ترتو بعد.

4. إلياس فركوح: أدركُ أنَّ صورة جوهر أمجد ناصر )التمردُ والمشاكسة(، والتي طُبِعَت في كتابة تفاصيل اليومي، والعادي، والهامشي، والُمهمَل، قد تجاورَت مع صورة القصائد التي "اكتشفناها" فجأةً عند يانيس ريتسوس، واحتذى حذوها جيشٌ صغير من الشعراء. لكنني أدركُ أنَّ أمجد تابعَ ما بدأه في بدايته الأولى، وقبل أن تصلنا قصائد اليوناني مترجمة، لأنني أعرفُ تلك الورقات الصغيرة المثناة، الخارجة بزهوٍ واعتداد من جيب قميصه الفضفاض الكالح أيام عمّان الأخبار، ومطعم هاشم، وشرفة رابطة الكتّاب، وشقة وادي سرور. أعرفُ تلك الورقات التي لاحقَ عبر سطورها تضاريسَ المرأة في خروجها الصباحي، وملامح المدينة وأشياء أرصفتها البسيطة. ففي اللحظة التي انضوى وانطوى فيها شعراء الأردن، بمن فيهم الشباب الجدد أصحاب الوعود حينذاك، تحت ألوية القصائد (بأشكالها غير العموديّة) المتخندقة داخل الموضوعة "الوطنّية" و"الثوريّة" و"الرافضة" و"الملتزمة" إلخ، بغنائيتها الرخوة؛ كانَ هو، وزكريا محمد معاً، يكتبان ما هو خارج السياق، ويشهرانه في المحافل المحافظة في صميمها، رغم ادّعائها عكس ذلك. كانا مثل وَلَدَين شَقيين، مشاغبين، يصنعان من قصائدهما طائرات ورقّية صغيرة، ويقذفان بها في فضاء قاعات المنابر الواطئة، فيجفل الحضورُ الغافي على وَقع المعتاد!


سيرة وأعمال
— 1955: ميلاد يحيى النميري النعيمات في الطرة شمال الأردن. — في المرحلة الثانوية: محاولات أولى في كتابة الشعر واهتمام بالحياة السياسية في الشام الكبير. — بحكم إقامته في الزرقاء، عرف عن قرب وضع النازحين الفلسطينيين وأغرم بالعمل الفدائي الفلسطيني الذي انتسب إليه بعد تخرجه من الثانوية. — 1977: غادر إلى لبنان بعد أزمة سياسية تتعلق بالجبهة الشعبية، التي كان منضويا فيها، والتحق في لبنان بإحدى القواعد الفدائية الفلسطينية، محاولا في الأثناء مواصلة دراسته الجامعية في جامعة بيروت العربية. — 1978: مراسل حربي لمجلة الهدف خلال الاجتياح الصهيوني للبنان — 1979: عضو الأمانة فرع لبنان في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، محرر الصفحات الثقافية في مجلة الهدف، التي أسسها الشهيد غسان كنفاني ومشرف على البرنامج الثقافي للإذاعة الفلسطينية، العلنية ثم السرية بعد اجتياح 1982. مجموعة شعرية أولى: مديح لمقهى آخر، باسم أمجد ناصر على الغلاف، بتحفيز وتأَثُّرٍ من سعدي يوسف، في قصائد تحتفي، في نبرة خافتة، باليومي والتفاصيل والحسي، في لحظة طغى فيها الاحتفاء بالسياسي المباشر عند الغالبية. — 1982: الالتحاق بمعهد الاشتراكية العلمية، في عدن، حيث درس العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية في عهد عبد الفتاح إسماعيل. — 1982-1984: الإقامة بنيقوسيا [قبرص]. — 1981: منذ جلعاد كان يصعد الجبل، شعر. — 1986: رعاة العزلة، شعر. — 1987: الإقامة بلندن. — 1989: المشاركة في تأسيس صحيفة القدس العربي والإشراف على قسمها الثقافي. — 1990: وصول الغرباء، شعر. — 1994: سُرَّ من رآكِ، شعر. — خبط الأجنحة، رحلات. — 1997: مرتقى الأنفاس، شعر. — 2004: حياة كسرد متقطع — 2005: كلما رأى علامة، شعر — 2010: حيث لا تسقط الأمطار، رواية. — 2012: في بلاد ماركيز، رحلات. بيروت صغيرة بحجم راحة اليد، يوميات. — 2016: هنا الوردة، رواية. — 2019: مملكة آدم، شعر. 30.10.2019: الوفاة بعَمَّان.