ما يميّز المقال الذي يحمل عنوان «الحرّاقون» (الشرق الأوسط - 04 ديسمبر 2018)، ليس أنه عن باريس، بل أنه عاطفي ويبدو صادقاً أكثر من غيرهِ. متصالح مع شعور بالانتماء إلى فرنكوفونية سحيقة مسكونة بأمومة فرنسا الحبيبة. يستحضر كاتبه صورةً سينمائية: الجنرال النازي في باريس، وهو يعصي أمراً لهتلر، لأنه أعجِب بالشوارع والجادات. وإن كانت الجادات في باريس أكثر رهافة، فذلك لا يلغي طرافة استحضار الجنرال. فالحقيقة أن الجنرالات الفرنسيين استسلموا، وأن ثمة مقاومة نشأت بعد ذلك. وأن المقاومة هي التي حررت باريس لا الاستسلام. ومِثل عدد كبير من المقالات، لا يتحدث المقال عن أسعار البنزين، عن الطبقات الوسطى، عن دولة عميقة أو دولة رعاية، ولا عن حِدّة التطور الرأسمالي. لا يسجّل موقفاً مؤيّداً أو معارضاً على أساس معرفي، ولا يذهب حتى إلى تحليل عميق للسُّلطة أو أجهزتها، ولا يكتفي بتفسير سطحيّ للأحداث حتى. لديه نقطة واحدة يدور حولها: الحرّاقون (يلمّح في أكثر من مكان إلى أن غالبيتهم من المهاجرين، كما لو أنه يحاول تنزيه «العرق الفرنسي» من العنف). المقال الذي يتحدث عن نفسه من عنوانه، ولا يتخيّل وجود عمّال وطبقات في فرنسا، غني بمفردات الحقل المعجمي اللبناني، الذي ينظر مثلاً إلى الاستقلال عن فرنسا بوصفه حالة أُسرية لا تحرّراً. أي كما يستقل الابن عن والده، ويلازمه الشعور دائماً بالحنين إلى العائلة. ينظر إلى فرنسا المستَعمِرة فقط لا إلى فرنسا. وهذا ما يفسر الاحتفال بالاستقلال كما لو أنه مناسبة من أصناف النوستالجيا وليست من أصناف الحرية. كثير من المفردات اللبنانية ــ الحرب الأهلية في المقال. مفردات لا يشتاق أحد إليها، من نوع «الغرباء»، ولا أحد يحب سماعها كـ«اجتذاب الاستثمار والشركات الكبرى والبنوك»، أو لا يفهمها أصلاً مثل عبارة «الطمأنينة القومية» التي «ترصّع» خاتمة المقال الأثير. وبما أن «الحرّاقون» على وزن «المخرّبون»، يمكننا أن نستنتج ما نستنتجه أيضاً. مفردات جاهزة على أوزان قديمة، ربما لأن المشكلة كلها في فرنسا تدور حول القرارات الجاهزة، وحول الاستهلاك! في أمكنة أخرى ثمة ما هو أكثر طرافة: إنّها «مؤامرة». وهذا دارج أيضاً يلقى رواجاً مثل أنواع الوهم الأخرى.
كريستو كومارنيتسيكي ـ بلغاريا

وفي جريدة عربية أخرى («باريس هل تحترق؟» ـ الحياة ــ 5 ديسمبر 2018)، تحضر السينما أيضاً في مقال رئيسي. ولا نحتاج إلى كثير من الجهد لنكتشف أن هتلر يحضر مجدداً، لكنه لا يحضر هذه المرة كبطل سينمائي خالص. إحالة أخرى إلى النازية بوصفها الشرّ ــ وهي من تمظهراته فعلاً ــ لكن مشكلة هذه الإحالة ليست أنها سينمائية بل أنها تضمر تعاطفاً دائماً ومبطناً مع الاستعمار والرأسمالية ومع أي مبحث مرتبط بهما. للإنصاف، فإنّ المقال المذكور يقدّم تصوراً عما يجري في فرنسا، إذ يتحدث عن زيادة الضرائب على الوقود، وتراكم الضرائب وتراجع القدرة الشرائية، وغازات الكاربون.
من اللافت سرعة القفز بين العناوين، ربما لضيق المساحة. لكن ما هو لافت فعلاً هو الحلول النيوليبرالية المقترحة، لأزمة سببها النيوليبرالية نفسها. هكذا، وكما تُستعار أحداث 1968 الطلابية لماماً ــ مع إسقاط الحضور «الماوي» منها قصداً ــ وتصويرها كحركة تراوح بين التخريب والبوهيمية، لتفسير الحراك الحالي بوصفه امتداداً لها في هذين المجالين، تصير استعارة النيوليبرالية ضدّ نتائج النيولبيرالية على صورتها في المقال: حدث طريف ومأساوي في آن.
المفارقة، أن ماركوزه، الفيلسوف الألماني ــ الأميركي، توقع بالفعل في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، ظهور فئات جديدة تتصدى للصراع ضد الرأسمالية، بسب شعور الناس بالانقطاع عن الزمن، وعدم قدرتهم على مواجهة التطورات الرأسمالية. لقد أصبح الناس، منذ وقتٍ بعيد، ضحايا لأنماط إنتاج تتكاثر بوتيرة سريعة، وتهدف إلى ضخ المزيد من الحاجات القائمة على الوهم، لرفع مستوى النزعة الاستهلاكية. لكن ما يراه ماركوزه منذ وقت بعيد، أو ما يسمّيه بودريار «فوق الواقع»، لا يحضر في القراءات العربية، رغم الحاجة إلى تجديده والركون إليه كأداة أو كمنهج، لا كخلاصة، إنما يحضر «الغرباء» و«هروب الثروات»، وما إلى ذلك.
يلمّح الكاتب في مقال «الحرّاقون» إلى أن غالبية المحتجين من المهاجرين، كما لو أنه يحاول تنزيه «العرق الفرنسي» من العنف


ينّبه المقال الأول إلى أهمية «الجنسية الفرنسية»، والثاني إلى مخاطر «تهشيل» الأغنياء من فرنسا، لأنهم «سيأخذون أموالهم معهم». تلك النظرية الساحرة التي تقترح على الناس في كل مكان القبول بمعادلات الاستثمار وخلق فرص العمل. بكلمات أدق تقترح عليهم أن يبقوا عبيداً للرأسمالية، وإلا «هشّلت» رؤوس الأموال. وطبعاً هناك هاجس التحذير من العنف، لأن العنف مسموح في العراق وسوريا واليمن ومالي، لكن ليس في باريس. بشيء من المبالغة، يمكن استعارة مصطلحات غرامشية لوصف القراءات العربية للأحداث، كما لو أنها تمثيلات للجهاز المهيمن. الجهاز الذي لا يتخيّل أحراراً أو عمالاً ويعمل لمصالح الطبقة التي يمثّلها. هذه الطبقة، التي ظهرت في أفلام جاك تأتي أفضل تمثيل. والأفلام موجودة ومتوافرة بأسعار زهيدة، لهواة النوع فقط.