لا تترك الصور حجة للمتفرّج كي يضلّ المدينة. تحاكي الكاميرات الملامح المترسخة في الوعي الجماعي، الفني والسياسي عن بيروت. ديكوراتها ومفارقاتها البصرية الظاهرة والمخبأة حاضرة في معظم صور (Point of View) POV بنسخته البيروتية. «بيروت مدينة تدفعنا إلى مساءلة هويتها، وثقافتها وتاريخها، لذا كان العمل عليها مناسباً»، يقول دامين بولان مؤسس دار نشر oodee البريطانية المستقلة ومطلق هذه التجربة.
المشروع الذي بدأ عام 2010 في لندن، ثم طوكيو وجوهانسبرغ وبوغوتا وبيروت أخيراً، ينشر كل سنة أعمال 5 مصورات فوتوغرافيات من مدن مختلفة ضمن كتب مستقلة. عدد POV الحالي ذهب إلى خيارات فوتوغرافية مختلفة مع 5 كتب لكل من لارا تابت ورندا ميرزا وكارولين تابت ولميا أبي اللمع وأيلا هبري. إذا استثنينا مجموعة هذه الأخيرة التي التقطتها في اليمن، سيبدو أنّ عدسات الشابات اللبنانيات تطمح إلى ما هو أبعد من تجميد تناقضات العاصمة اللبنانية الكثيرة. تصبح الفوتوغرافيا في كتبهن مختبراً تجريبياً لأساليب ومقاربات جديدة للتشققات المدينية والسوسيولوجية والسياسية والجغرافية، التي تصنع حالة بيروت منذ عقود.
تمشي مجموعة The Reeds للارا تابت (1983) على الحبال الوهمية الفاصلة بين مناطق المدينة، مضيفة شرخاً جغرافياً إلى الشروخ الطائفية والطبقية والثقافية. في مجموعتها التوثيقية الانتروبولوجية، تبحث عن المعنى الذي تمليه الممارسات الإنسانية على بعض الأمكنة العامة في بيروت. كيف تكتسب هذه المساحات الجغرافية وظيفتها؟ تحجب حشائش الماء الطويلة حياة أخرى. مع ساعات الليل، يتسلل الفرسان إلى منطقة بحرية مواجهة لفنادق المدينة. يؤدون بطولات جنسية، وممارسات حميمية في فضاء عام. تلجأ تابت إلى الألوان الداكنة، معظمها بالأبيض والأسود، لتقفي أثرهم. توظف تقنية التصوير الضبابية لتمحي هوية شخصياتها في أمكنة موجودة جغرافياً. باستثناء اللقطة التي تظهر المبنى المقابل للمكان، تجرّد لارا تابت المساحة من أي علاقة مع المحيط. تأكيد آخر على العزل المفروض على بعض المساحات العامة في بيروت، وعلى الأشخاص الذين لا تعترف بهم الحياة الليلية فيما هم صانعوها. الفجاجة في التقاط الأجساد العارية، وبعض الأعضاء البشرية لا تعفِ الصور من تجسيد بصريّ آخر لحالات الغياب. إنها كائنات حلمية، بأجساد بشرية، تبدو خارجة للتو من الماء أو منسلة من إحدى الأساطير الشعبية. تترك تابت صوراً هي طبقة أخرى للتشكيك في الحقيقة لا لإظهارها.
ترى لميا أبي اللمع النساء كما لا يرين أنفسهن. في مجموعتها Clashing Realities تلبسهن بدلات عسكرية هي رمزية لكل الحروب التي شاهدنها ولم ينخرطن بها، الأحداث التي لم تسلبهن عيونهن بل تركت فيها تلك النظرة المنطفئة. مشاركة النسوة في الحرب كانت دائماً استثناء. تنطلق أبي اللمع من محطات العنف منذ 1975 مروراً بالاغتيالات والحروب الصغيرة كفعل ذكوري بحت. رغم محاولة الإقحام الشكلية، لا تحيلنا البدلة العسكرية على مشاركة مباشرة في العنف بقدر ما تعكس تورطاً عاطفياً في الأحداث. تبقى النساء كجدار جاهز دائماً لتلقي التصدعات النفسية. بورتريهات أبي اللمع الفردية أو الجماعية تظهر نساء لبنانيات تجمعهن الخسارات. يجلسن في منازلهن، أمام شجرة الميلاد أو أمام أيقونات الدينية أو في غرفة النوم.
معظمهن متضرر مباشر من الحرب، أو فاقد لأحد الأفراد الذكور. تختبئ جيزيل خوري زوجة الشهيد سمير قصير ومي شدياق، ونساء اخريات تحت الجلد نفسه، حين تصبح البدلة العسكرية ندبة أخرى خلّفها الوطن. وكما يبقين أسيرات خساراتهن، تحبسهن أبي اللمع في كادر الألم الأبدي نفسه الذي يسببه موقع المتفرج/ المتلقي.
وإن بدت الحرب طرفاً في مقاربة حالية أو وسيلة لمحاكاة نتائجها في معظم الصور، فإن كارولين تابت تظهر انغماساً مباشراً فيها. في 14 آب (أغسطس) 2006، يوم انتهاء حرب تموز، التقطت تابت 13 صورة فوتوغرافية في ضاحية بيروت الجنوبية. مجموعتها Disintegrated Objects تقدّم سرداً بصرياً للحرب، أشبه بتجميع لحيوات متوارية خلف الركام. الصور التي توحدها خلفية الدمار، تلتقط بقرب الأغراض والأشياء التي شتتتها الحرب وأخرجتها من سياقها المكاني الطبيعي. تقترح ألبوماً بصرياً للأشياء يوازي ألبومات العائلات، ويشهد على يومياتها السابقة. ألبوم غير بشري للموت يبتعد عن المباشرة، رغم ذلك يحتفظ بحميمية قاتلة. الساعة التي يكاد يخفيها ركام المبنى، تستدعي العيون التي كانت تترقب عقاربها، كذلك الدفاتر والألبوم ومجلات والألعاب والثياب. لقطاتها تظهر تلك اللحظات التي صنعت لكي تتلقاها عدسة الكاميرا، كأنما الأشياء هي غياب أصحابها (موتى أو أحياء)، لا ما تبقى منهم.
يضم كتاب رندا ميرزا مجموعتين فوتوغرافيتين تظهران القدرة المذهلة للفنانة على التلاعب ببصر المتفرج. مجموعتها Parallel Universes تحاكي التداخل بين لحظات السلم والحرب عبر لعبة بصرية صادمة. تدمج صوراً من الحرب الأهلية وحرب تموز 2006، مع لقطات لسياح في وضعيات مختلفة. الجثة المرمية خارج السيارة تدعو دهشة السيّاح. والدواليب المشتعلة، تروق مزاج شابين للتمدد بجانبها، وشرب الكوكا كولا. والدخان الخارج بعد سقوط قذيفة ومشهد الدمار ليس إلا حدثاً كافياً كي تطلق السائحات صرخاتهن الساذجة، مخترقن المشهد الرمادي بشعرهنّ الأحمر. تضارب بصري يستدعي، إلى جانب اشكالية تداخل لحظات السلم والحرب، اشكالية بصرية أساسية تنطلق من مدى امكانية تأثر المتفرج بالمشهد. صور ميرزا تخط تحديداً هذه المسافة الهائلة بين الفاجعة والمتفرج، وتدفع الأخير إلى الفصل المزعج بين الحقيقة والفانتازيا... إلى الفصل بينه وبين السياح. القدرة «البهلوانية» ذاتها على التلاعب بالحقيقة والتهكم من الواقع نراها أيضاً في مجموعتها «بيروتوبيا». تكفي بعض المكعبات الاسمنتية في زاوية الكادر السفلية لتفصلنا عما كنا قبل لحظات معدودة نخاله حقيقة. بسبب مزق صغير، قد ينهار برج بكامله، ألواح الخشب المتسخة تستطيع أن تخدش المشهد اللامع للصالون.

لميا أبي اللمع تُلبس النساء
بدلات عسكرية
رندا ميرزا اهتدت إلى الأسلوب المناسب للسخرية من التخطيط المديني في بيروت (ما بعد الإعمار). في مجموعتها، تصور بعض اللوحات الإعلانية لأبنية جديدة، ضمن واقعها الحقيقي. مشهد البحر الذي يبدو أنه يسرق نظر الرجل، هو مجرد خدعة بصرية للوحة إعلانية قد تكون السبب في حجبه عن أعيننا. تلتقط هذا التباعد الهائل بين الفضاء المديني والأبنية الحديثة، الذي يدوس عليه المستثمرون بسبب وهم جمالي وآخر ربحي.
في مشروعها «أمير أصلي»، تتعقب أيلا هبري رحلة رجال يمنيين على الدراجات النارية من صنعاء إلى كوكبان. أمراؤها بلا أحصنة ولا قصور، بل بدراجات نارية. تسائل علاقة هؤلاء بدراجاتهم، حين تفقد هذه الوسيلة غايتها المتعلقة بالنقل. تتحول من وسيلة نقل إلى امتداد لرجولتهم. ثيابهم التقليدية الفضفاضة، الأقمشة التي يربطون بها رؤوسهم تقابلها خرق من الفرو وشباك سوداء تزين دراجاتهم. تتحوّل المسافات الطويلة التي يقطعونها، مجرد ساحات لبطولات دونكيشوتية رجولية. كأن عبارة الأمير الأصلي المكتوبة بفخر على واحدة من تلك الدراجات النارية، تختزل وجودهم.