لا ننطلق في هذه المقالة من معرفة شخصية بالراحل نزار مروّة (1931 ــ 1992)، ولا من معاصَرَة لنشاطه الصحافي والنقدي. كل ما بين يدينا هو مقالاته وحواراته مع موسيقيين وأبحاثه التي جُمعِت ونشرتها «دار الفارابي»، وخصوصاً كتاب «في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني» (1988) الذي أشرف على إصداره وقدَّم له رفيقه الراحل محمد دكروب.
من جهة أخرى، لا تدّعي هذه المقالة القراءة الشاملة لتجربة نزار مروّة في النقد الموسيقي، أي أن تبيّن منهجه في العمل وتمرّ على النقاط التي أصاب فيها ببراعة لا مثيل لها في تاريخ هذه المهنة العربي، وأن تشير إلى حماسته غير المبرّرة لتجارب موسيقية عربية لم تكن تستحق ذلك (سبب الحماسة قد يكون الشحّ في الإنتاج الجاد الذي يجرّ إلى المبالغة في الانحياز إلى عمل متواضع لكن فيه تجديد). هذا يتطلّب وقتاً وجهداً لم يكن ممكناً بصراحة. فمناسبة الكتابة هي التكريم الذي يقيمه «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» اليوم في الذكرى الـ25 لغياب الرجل، ويتخلّله عزف على الفلوت لنبيل مروّة ومداخلة لأحمد مروّة. علمنا بهذا التكريم قبل أيّام قليلة، وهي مدّة غير كافية لمراجعة كتابات كثيرة من زاوية تلَمُّس قيمة مروّة، وتأثير قلمه في مسار الموسيقى العربية، وتعداد أدوات عمله، وغيرها من النقاط التي تحتاج إلى وقت أطول للإحاطة بها. مع ذلك، ثمة خطوط عريضة علقت في ذاكرتنا، منذ القراءة الأولى لكتابه، وهي التي نبني عليها حديثنا عن أستاذنا الذي نتعلّم من كل سطر تركه.
نزار مروّة هو من مؤسّسي فكرة النقد ووظيفته الحيوية في تطوّر الموسيقى، في لبنان والوطن العربي، إذ مارس هذا العمل منذ مطلع الخمسينيات. ولدى ميله إلى رؤية الفن بعين التحليل، كان لا بدّ من تطوير أدواته بدءاً من السمع (الموسيقى العربية بطبيعة الحال والموسيقى الكلاسيكية الغربية كما هو واضحٌ من كتاباته)، ثم بتعلّم العزف على آلة (الفلوت) وبالاطلاع على الحد الأدنى من النظريات الموسيقية. أضف إلى أن تخصّصه بالرياضيات شكل عاملاً إضافياً في هذا السياق، لارتباط الموسيقى الوثيق بهذا العلم. هكذا، عرف كيف يطعّم كتاباته بذائقته الخاصة، لكن بشكل محدود التأثير، تماماً كما وظّف المقاربة العملية بحدود لا تجعل القارئ العادي غريباً عن الموضوع. ومقابل اطلاعه شبه الشامل على كل النتاج العربي واهتمامه الواسع بالموسيقى الكلاسيكية، يبدو أنه بقي بعيداً نسبياً عن بعض الأنماط المهمّة، كالجاز مثلاً.
أهم إنجازاته بدون منازع كانت مرافقته تجربة الأخوين رحباني وفيروز منذ انطلاقها حتى رحيل عاصي. ومن أهم الأفكار التي قدّمها للموسيقى العربية هو دعوته إلى عدم تقديس الصوت البشري، والتعاطي معه على أنه آلة موسيقية كغيره من الآلات. هذا ما فتح الباب أمام التوزيع الموسيقي للأغنية وأيضاً للتأليف الموسيقي الخالي من الكلمة والمطرب. ولهذا السبب تحديداً، أذهلته مغنّاة «راجعون» التي شكّلت تحوّلاً في الموسيقى العربية وموسيقى الأخوين رحباني، بصرف النظر عما إذا أتت لتخدم القضية الفلسطينية (والحال كذلك) أو أي قضية أخرى. فالاحتفاء أتى موسيقياً بفعل الدور «الجديد» الذي أولاه الأخوان رحباني للغناء، ألا وهو الدور المكمِّل في العمل والمتساوي (إن لم يكن أقلّ، لولا صوت فيروز العظيم) مع دور التأليف الموسيقي الأوركسترالي.
اقترح مروّة حلولاً واضحة لتطوّر الغناء والموسيقى في العالم العربي ولبنان. لكن ما عساه يقترح للخروج من الكارثة التي ضربت صناعة الأغنية العربية؟ الرجل ليس بيننا كي نتأمل منه حلاً. علينا نحن أن نجد الحل. بصراحة، نعترف بأنه ليس لدينا تصوّر لهكذا حلّ في الوقت الحاضر. لكن ثمة أمل للخروج من النفق المظلم، من بابَين: الأول أكيد، ولا دخل لنا جميعاً بصياغته. إنّه الوقت الذي سيأتي بنهضة حتمية كما هي الحال تاريخياً بعد كل انحطاط. أما الثاني، فهو من بُعدَين ويمكن اختصاره بالتالي: البعد الأول يكمن في وجوب فصل «المصاري» عن الفن (تحت طائلة الملاحقة القضائية). بمعنى أوضح، يجب منع «موضة» (أصبحت اليوم قاعدة) دفع الأموال مقابل البث (الكليبات على التلفزيون والشيك الذي يُرفَق مع الأغنية في الطرود التي تُرسَل إلى الإذاعات). أما البعد الثاني، فعنوانه «الثقافة الموسيقية». فعلى كل من يعمل في صناعة الموسيقى من أي نوع كانت وإلى أي فئة انتمت، أن يفرد 90 في المئة من وقته للاستماع إلى الموسيقى من جميع الأنماط والأشكال والحقبات… الاستماع بانتباه توظيفي (أي جعل سؤال «كيف يمكن توظيف هذا الصوت؟» هاجساً دائماً) إلى كل ما يصدر صوتاً حتى لو كان نهيق حمار! فالفن محكومٌ بالتطوّر والبند الأول في التطوّر، أي الانتقال إلى مرحلة جديدة، هو في هضم جميع المراحل السابقة. هكذا فعل موزار، فانتقلنا إلى الكلاسيك من الباروك. هكذا فعل بيتهوفن، فانتقلنا بعد موزار إلى الرومنطيقية. هكذا فعل شوبان وتشارلي باركر وزياد الرحباني (التطوّر بين أغاني «سهرية» و«وحدن» أو «معرفتي فيك» أو «خلّيك بالبيت» أو «عندي ثقة فيك» أو ألبوم «إلى عاصي» أو «تنذكر ما تنعاد» أو «كبيرة المزحة هاي» أو «الله كبير»، وذلك لناحية «صوت» العمل وليس لحنه. سببه مراكمة في السمع، متى عرفنا أن موهبة الرجل هي هي في جميع المراحل وكذلك الأمر بالنسبة إلى معرفته الموسيقية النظرية). أخيراً، ماذا على النقاد فعله اليوم؟ لا شيء. هزّ الرؤوس إعجاباً أبدياً، من على المقاعد الأمامية، كافٍ… بالتوفيق!

لقاء تكريمي لنزار مروّة: اليوم ــ الساعة السادسة مساءً ــ قاعة «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في بيروت (نزلة برج أبو حيدر ــ خلف محطة «توتال»).
للاستعلام: 01/703630
أوwww.althakafi-aljanoubi.com