شيخوخة الصفّ الثاني

  • 0
  • ض
  • ض

مات ياسين رفاعية. بعض الموت مربك أحياناً حين يتعلق بكاتب ظل حضوره متداولاً داخل ما يمكن أن نسمّيه كتّاب الصف الثاني. لم يكن الكاتب السوري الذي أقام في بيروت منذ الستينات على الهامش تماماً ولم يكن في المتن تماماً أيضاً.
كان هذا التأرجح متاحاً، ولا يزال متاحاً في بيروت وفي صحافتها وفي مقاهيها، وفي فقاعتها الفريدة التي لا تزال تحتوي على هواء مختلف وأكثر حيوية من العواصم العربية الأخرى.
جاء رفاعية إلى بيروت في رحلة قطعها، قبله وبعده، سوريون وعراقيون وفلسطينيون ومصريون وسواهم من الكتاب والشعراء العرب. كانت بيروت مكاناً لصناعة الأسماء أو صقلها أو منحها اعترافاً ومساحات مفتوحة أكثر. كان صاحب «الحزن في كل مكان» (1960)، باكورته القصصية التي نشرها في دمشق مستدرجاً إلى هذا المناخ الفائر بكل النبرات والطموحات.

عاش في سخاء تلك الحقبة وثرائها، وارتبط اسمه بأسماء عديدة ظل حتى أيامه الأخيرة يستعيدها داخل مرويّاته عن بعض خبايا وأسرار تلك الحقبة، بل إنه ظل منتمياً في كتاباته ونصوصه إلى ذاك الزمن أيضاً، وبدا عالقاً في سياق ولغة كانت سائدة في زمن أقدم حتى من ستينات بيروت ذاتها. كان رفاعية حكّاء وراوياً شفوياً يمزج بين بساطة الحديث وخصوبة الزمن الذي يروي عنه. يمكنه أن يحدثك طويلاً عن غسان كنفاني وغادة السمان وليلى بعلبكي وسامي الجندي وزكريا تامر وعصام محفوظ... ويبتهج بحيازته لانطباعات ووجهات نظر وأسرار شخصية حول تلك التجارب. تلك الانطباعات والحكايات والسرديات تسربت بالمذاق البسيط نفسه إلى قصصه ورواياته، وخصوصاً الأخيرة منها. ولعل معظمنا قرأ تلك الروايات التي أقامت في الصف الثاني أيضاً، ولم تكن حاضرةً في الواجهة التي تضم أحدث الروايات وأكثرها راهنية على مستوى الكتابة.


حكّاء وراو شفوي يمزج بين بساطة الحديث وخصوبة الزمن

وفاة رفيقة دربه الشاعرة أمل جراح (1945 ـــ 2004) أفقدت رفاعية تلك الصحبة الثمينة التي كانت ستؤنس كهولته في المقلب الأخير من العمر. الزوجة الراحلة كانت حاضرة باستمرار، وكان باستطاعته أن يُقحم اسمها وحنينه إليها في أي حديث معه. في سنواته الأخيرة، كان يتحدث عن قصص حب يعيشها، ويبالغ ربما في حضور تلك القصص التي وجد فيها منافذ ضيقة ومنعشة لوحشته المتمادية التي قضاها وحيداً في منزله في نهاية شارع الحمرا. الشارع الشهير الذي انحصرت حياة ياسين رفاعية وكتاباته على أرصفته ومقاهيه وصداقاته. هناك، كتب معظم أعماله عن الحرب وعن رأس بيروت وعن كتّاب وشعراء يرتادون مقاهي الشارع، وعن قصص حب بين كهول وفتيات في مقتبل العمر.
ظل ياسين رفاعية يغرف من ماضيه ومن سيرته ومن سيرة بيروت التي احتضنته. كتب شعراً أو نصوصاً ذات نفَس شعري كما كان يسميها، وكتب القصة والرواية، وظل يعمل في الصحافة، وأصدر أكثر من عشرين كتاباً. كتب عن زوجته، وأعاد نشر روايتها «الرواية الملعونة» التي فازت بجائزة مجلة «الحسناء» سنة 1968. وفي كل ذلك، ظل ياسين رفاعية يشبه نفسه وذاكرته وسيرته. كأن كل تلك الكتابات ترابطت فيما بينها بقوة تلك الذاكرة وتلك السيرة. سيرة وذاكرة لم يُكتب لهما الالتحاق بالتطورات والانعطافات التي حدثت في الرواية المعاصرة، ولم يُكتب لصاحب السيرة والذاكرة أيضاً أن يعيش شيخوخة كتّاب الصف الأول، وأن يحظى بصيت وبريق وترف رحيل هؤلاء أيضاً.
رحل ياسين رفاعية في الظل تقريباً. شيخوخته ومرضه ساهما في ذاك التواري البطيء الذي اكتمل أمس وهو في الثانية والثمانين.

0 تعليق

التعليقات