الإعلان عن فوز أورهان باموق بجازة نوبل للآداب لم يفاجئ أحداً. فقد توقعت مصادر عدّة أن تختار الأكاديمية السويدية هذا العام الكاتب التركي الذي أثار قضايا سياسية حساسة في بلاده. لكن أدب أورهان باموق (1952) هو في الحقيقة في مكان آخر، أكثر التباساً وتعقيداً وعمقاً من المعركة السياسية التي تخاض حوله باسم حرية التعبير وإعادة النظر في الرواية الرسمية للتاريخ التركي. إنه يطرح بأسلوب صعب وشائك، أسئلة فلسفية ووجودية تتخذ من التاريخ مادتها ومن اسطنبول، المدينة التي يحرّكها الشجن، ديكورها الأسطوري والواقعي في آن. إسطنبول بإرثها الثقافي المزدوج، وأرواحها الهائمة وخرافاتها الطالعة من أعماق البوسفور. إسطنبول التي خصّها بكتاب على شكل مذكرات عنوانه «إسطنبول: الذكريات والمدينة» (2003). إنه مسكون بالحنين الى أمجاد الامبراطورية الغابرة، الى طفولة بورجوازية في ضاحية نيشانتاس الراقية، يحتفظ منها برنين أواني الكريستال وآلات البيانو المنتصبة وحدها في الصالونات لا يعزف عليها أحد. الحنين الى الزمن الهارب الذي يحاول أن يضبطه في الكتابة.كتابة باموق قائمة على وعي الشرخ بين أزمنة وأنماط ثقافية متنافرة، بين العالم الواقعي والعالم المتخيّل. إنه على الأرجح سرّ كل هذا الحزن الذي يتحدث عنه بيان الأكاديمية السويدية. يرشح الحزن من مكان خفيّ في نص أورهان باموق الذي شاء الإعلام لبرهة أن يحوّله رغماً عنه كاتباً سياسياً، مع أنه لم يتعامل مباشرة مع السياسة إلا في آخر رواياته «ثلج»، حيث تناول «الاسلام السياسي» والعسكر ومعاناة الأقلية الكردية.
الفتى الذي كان يريد أن يصبح رساماً، ثم مهندساً على خطى أبيه وجدّه... ضرب عرض الحائط بكل مشاريعه. خارجاً من مراهقة مترفة وصاخبة. انطوى على نفسه مرّة نهائية، وأصبح كاتباً في الثالثة والعشرين: «كي يتمكن من اقامة علاقات مع الفتيات». روايته الأولى «جودت بك وأولاده» (1982)، بقي سنوات يبحث عمن ينشرها حتى كاد ــ حسب مترجمه عبد القادر عبد اللي ــ يضع اعلاناً في احدى المجلات الأدبية: «رواية حازت جائزة برسم البيع».
يصحو باموق ويباشر بالكتابة، يشعر بأنّه موظف مكتب. لم يغادر إسطنبول إلا لماماً، أقام مرّة في نيويورك، ثم عاد الى حضن العاصمة الامبراطورية بحثاً عن أرواحها الهائمة. في مشروعه الأدبي يلتقي بروست وبرخيس، الزمن الضائع والعالم المشرّع على التهويمات الروحانية والفلسفية. يلتقط المعادلة الصعبة من طرفيها: الموروث من جهة، ومن الأخرى تحديات الثقافة الأوروبية الحديثة.
نصوصه خلاصة أبحاث تاريخية وأرشيفية مضنية، يبث فيها عناصر أوتوبيوغرافية، وتطفو على وجهها بين حين وآخر ذكريات آتية من بعيد. الواقعيّة تتوارى خلف عالم من الفانتازيا. فنان منمنمات يقتل أواخر القرن السادس عشر، لأنه يحاول اعتناق الرسم الأوروبي وقواعد المنظور. في «اسمي أحمر»، الرواية التي فتحت امامه ابواب الشهرة عالمياً، يستثمر كل خبرته التشكيلية، ليصور لحظة الصراع الحاسم بين فنون النهضة الأوروبية، والتقاليد الاسلامية المهددة. وتدور «القلعة البيضاء» حول قصة عالم ايطالي يخطفه قراصنة عثمانيون ويبيعونه الى عالم تركي في القرن السابع عشر. من خلالها يستعيد العلاقات الشائكة بين الشرق والغرب، بين «تصادم وتشابك»، تفاعل وتكامل ومواجهة، في لحظة مفصلية من تطور أوروبا والشرق الإسلامي.
يعيش أورهان باموق فيلماً بالأبيض والأسود، شاهده ذات حياة، ولم يخرج منه حتّى اليوم. «منذ سنوات طويلة، في زاوية من زوايا عقلي، تمتد حتى الطفولة، يعيش أورهان آخر، هو توأمي ومثيلي في كل شيء، في بيت يشبه بيتنا، وفي مكان ما من أزقة إسطنبول». وهذا الطفل هو الذي فاز أمس بجائزة نوبل. لقد ربح أورهان الصغير رهانه، وأثبت لأمّه البورجوازية، التقليدية، أن الأدب الذي كانت تعتبره هدراً للطاقة ومضيعة للوقت، «يمكن أن يوصل الى نتيجة»!


لقطات

  • ولد في 7 حزيران 1952 في كنف عائلة ميسورة، ودرس الهندسة قبل أن يدخل جامعة إسطنبول وينال إجازة في الصحافة عام 1977.

  • صدرت روايته الأولى عام 1982 بعنوان “جودت بيك وأولاده” ونال عليها جوائز عديدة وأصبحت مع بعض الروايات الأخرى سبباً في شهرته، فتُرجمت إلى 34 لغة.

  • أعلن عام 2005 لمجلة سويسرية ان «مليون أرمني و30 ألف كردي قتلوا على هذه الأرض، لكن لا أحد غيري يجرؤ على قول ذلك”.

  • أُحرقت كتبه في تركيا بعد تصريحاته في شأن المجزرة الأرمنية، ولم تتوان كبرى الصحف التركية عن وصفه “بالمخلوق الدنيء”.

  • صرّح عام 2005 “ضقت ذرعاً بالأفكار الكبرى في بلادي المسيّسة. كان الأدب ردة فعلي. أرغب في القول للقارىء: “لا تأخذ الأمور على محمل الجدّ. أليست الحياة رائعة؟”

  • وصفه الرئيس الأميركي جورج بوش بـ “الكاتب العظيم” الذي مدّ جسوراً بين الشرق والغرب. فردّ باموق أنّ بوش وسّع الهوة بين الشرق والغرب، واصفاً احتلال العراق بالهمجي.

  • أول كاتب في العالم الاسلامي يدين علناً الفتوى التي صدرت عام 1989 ضد الكاتب سلمان رشدي وساند زميله ياسر كمال حين استُدعي للمثول أمام القضاء عام 1995.

  • باموق طويل القامة وعصبي، مطلّق وله ابنة ويقيم في اسطنبول. لا يظهر إلا نادراً في المناسبات العامة ويفضّل مكتبه على الأضواء.



  • “جودت بيك وأولاده” ــ منشورات وزارة الثقافة ــ دمشق ــ 1989. تغوص الرواية في التحولات السياسية والثقافية في تركيا خلال سبعينيات القرن المنصرم.

  • “اسمي أحمر” ــ دار المدى ــ دمشق ــ 2000. تتناول الرواية التاريخية الفن التشكيلي الإسلامي.

  • “القلعة البيضاء” ــ دار ورد ــ دمشق 2000. قصة ايطالي يقع في أيدي الأتراك في اسطنبول.

  • “ الكتاب الأسود” ــ دار المدى ــ دمشق 2003. حادثة اختفاء صحافي على خلفية انقسام الهوية بين ضفتي البوسفور.

  • “الحياة الجديدة” ــ دار نينوى ــ دمشق ــ 2004. يصوّر باموق رحلتين قام بهما إلى الأناضول حيث اندثار الأشياء في عصر استهلاكي بامتياز.

  • “ثلج” ــ دار الجمل ــ (ألمانيا) ــ 2005. قصة مغترب، يعود إلى بلاده ليكتشف مجازر الأرمن وحياة الأقلية الكردية.

  • “اسطنبول: الذاكرة والمدينة” ــ سلسلة الكتاب الشهري ــ منشورات وزارة الثقافة السورية 2006.