غيث الأمين
حين انتقد زياد الرحباني مسرح الرحابنة (في «شي فاشل»)، لم يجد أفضل من «صح النوم» نموذجاً لرؤيته الساخرة. لكن الابن الرهيب للمؤسسة الرحبانيّة يبعث تلك الأوبريت، مانحاً فيروز فرصة ذهبية للعودة إلى خشبة المسرح. استعدوا للمفاجأة!
كان الجمهور ينتظر بمزيج من الشوق والفضول إعادة عرض مسرحية “صحّ النوم” للأخوين الرحباني في “مهرجانات بعلبك الدولية”، لكن “مصادفات التاريخ” حالت دون ذلك. وقد أعلنت أخيراً لجنة “مهرجانات بعلبك” انها ستعرض المسرحية الغنائية قبل نهاية هذا العام من دون تحديد المكان والزمان. إلا أنّ بعضهم يتوقع أن تعرض قبل عيد الميلاد في “البيال».
هكذا، سيكون الموعد المقبل مع “صحّ النوم” المحاولة الثالثة بعد انقطاعين. أولهما عام 1970 بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر... والثاني مباشرة بعد العرض غير الرسمي الذي يسبق العرض الأول، عشيّة بدء العدوان الاخير على لبنان. لكن لماذا اختارت لجنة بعلبك “صح النوم” من دون المسرحيات الرحبانية الأخرى؟
الأسباب عديدة منها أن هذه المسرحية لا ترتبط بحقبة محددة من تاريخ لبنان. وبالتالي فهي تخلو من اي اسقاط سياسي ـ تاريخي وتختلف جذرياً عن سابقاتها “المدجّجة” بالأفكار الوطنية والقومية، كمسرحيتي “فخر الدين” و“جبال الصوان”. ما يجعل هذه الأوبريت القائمة على نقد اجتماعي غير مدّع، تصلح لكل زمان ومكان. وتكمن فرادة هذه المسرحية في حواراتها الملحّنة الشديدة الغزارة. «صح النوم» هي المسرحية الغنائية المثلى (اذا ما قورنت بمثيلاتها في المسرح الرحباني)، بفضل اكتمال العناصر الجمالية والشروط الفنية لهذا النمط الموسيقي في المسرح. لا توجد أغان مستقلة تماماً في مواضيعها عن مضمون النص المسرحي. ولا نغالي إن قلنا إنه لا أغاني على الاطلاق في هذه المسرحية. فالحوارات الملحّنة والمونولوجات المغنّاة، ترتقي الى مستوى تتفوق فيه غنائياً وشاعريةً على أي من الاغاني المنفصلة عضوياً عن المضمون المسرحي، كما هي حال أغان في مسرحيتي “لولو” و“ميس الريم”.
الجمهور اللبناني والعربي ينتظر العرض بفارغ الصبر، إذ ستظهر فيروز للمرة الأولى في مسرحية منذ أكثر من ثلاثين سنة وربما للمرة الأخيرة. فيما يشكّل زياد الرحباني عامل جذب أساسي. إذ أدى أكثر من دور في إعادة إحياء محاور عدة في «صح النوم ـ 2006”.
أعاد زياد تسجيل الموسيقى والحوارات المغناة، وأبقى على التوزيعات الأصلية للمسرحية. و“اشتغل” على هامش ظلال اللون الواحد في التأليف الموسيقي. وحاول “إزالة الغبار” عن التسجيلات الموسيقية الاصلية التي بهت بعض ألوانها مع مرور الزمن. كيف؟ عبر إضافة بصمته الخاصة المتجسّدة في اعادة قراءة النص الموسيقي الأصلي وإبراز مواطن القوة في التأليف المتقن للعمل. الى جانب هذه التعديلات، تصرف زياد بإيقاع بعض الحوارات المغناة، حسب مقتضيات النبض العام لمجريات المسرحية في نسختها الجديدة. وعمد الى حذف جزء من الحوار الأصلي في أحد المشاهد لأنه يرتبط بحالة سياسية كانت قائمة آنذاك (1970)، ولم تعد تخدم السياق الراهن للمسرحية. أما الجملة المحذوفة فهي “انبح صوتنا نحنا ونقول: والي واحد لا واليان” في إشارة الى نفوذ عبد الناصر المتعاظم وقتها في لبنان. “صح النوم” هي الأقرب بين مسرحيات “الأخوين الرحباني” إلى مفهوم الأوبريت. إذ أن الغناء الفردي والجماعي يحتل 70 في المئة من مدة العرض. أما ما تبقّى للحوارات المحكية، فيتخلله بعض الموسيقى وقليل من الأداء اللحني الصوتي. ولم تقتصر مساهمة زياد على الاشراف الفني الموسيقي فحسب، بل تعدته الى إزالة بعض “الشوائب” من السيناريو (مثل “لطشة” عبد الناصر)، وتعديل تفاصيل صغيرة، كاستبدال شخصية مدير مطعم بشخصية امرأة لبنانية من أصول أرمنية للدور نفسه (شخصية الأرمني تكاد تحضر دائماً في مسرحيات زياد).
ومن الإضافات الأخرى للرحباني الابن إبراز دور الكورس. في مسرح «الاخوين الرحباني»، لم يظهر الكورس على الخشبة مجموعةَ إنشاد مستقلة عن فريقي الممثلين والراقصين. أما زياد فقد قدّم في أحد المشاهد الكورس بمُنشداته الاربع، على بقية اعضاء الفرقة، مانحاً اياه دوراً يقوم على توقيع قافية ما، إنشاداً وإيماءً في وقت واحد. كورس في مقدمة المسرح يتوجه بأدائه الى الحائط الرابع، ويخاطب الجمهور، بالصوت والحركة في «تكتيك» بريختي بامتياز. يعيدنا ذلك الى مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» حين أشرك زياد الفرقة الموسيقية الجالسة أسفل خشبة المسرح في أحداث العرض المسرحي. ونتحدّث هنا عن المشهد الذي ظهر فيه «البدائي»، وهو ينزل عن الخشبة ويهاجم مجموعة العازفين، دافعاً اياهم الى ترك كراسيهم هرباً منه.
أيضاً، أحب زياد إظهار موسيقيين يعزفون عزفاً حياً. فكانت إضافته في ابتكار ثلاث شخصيات، عازفات في لباس عسكري من دون سلاح: الأولى تعزف الفلوت الصغير (بيكولو)، والثانية تقرع طبلاً كبيراً، والثالثة تضرب صنجين كبيرين.
لكن من الذي اختار اعادة تقديم «صح النوم»؟ من تسنّى له حضور العرض غير الرسمي، لا يمكنه تجاهل الدقة المتناهية التي ظهرت في التسجيلات الجديدة. «فضحت» هذه الصناعة السمعية المتقنة تواطؤً لدى زياد يصل حدّ الاتقان الكامل لمادة موسيقية لم يؤلفها، لكنه بثّ فيها روحه. ما يعني ان الكلمة الفصل في انتقاء هذا العمل ربما كانت لزياد. قد يبدو غريباً هذا الأمر، لأنّه حين أراد زياد انتقاد مشروع «الأخوين الرحباني» المسرحي في عمله «شي فاشل»، انتقى «صح النوم»! وجاءت عبارات مثل “بدكن نوقع بالـ ما شي” ونصفّي الـ “ما حدا” و“ردّوا... ليش ما بتردو”، نوعاً من التهكم على تلك التي ظهرت في “صح النوم” وهي “وقعنا بالمشي وصرنا مَشِي” و“فتشو.. ليش ما بتفتشو”.
جاهر زياد الرحباني مراراً بانحيازه الى التأليف والتوزيع والموسيقيين على حساب تأليف النص المكتوب. حتى انّه أعلن أن عروضه المسرحية هي مصدر تمويل مشاريعه الموسيقية، مؤكداً ان اللبنانيين يفضلون الكلام على الأغنية والأغنية على الموسيقى. بالتالي، لا يمكن أن يكون اختياره مسرحية غنائية لا تتوقف الموسيقى فيها تقريباً، وليد المصادفة... بل لعلّه يقع في صميم ذائقته الفنية. وقد أحدث إشرافه شبه الكامل على تمارين الأيام الثلاثة الأخيرة (أول تموز 2006) فرقاً شاسعاً في الرؤية الإخراجية والجمالية لهذا العمل الغنائي. كيف سيكون “شكل” “صح النوم” هذه المرة مع بدء العد العكسي؟ وما مدى الهامش الذي سيحدده زياد لنفسه؟ وهل سيكون هذا الفاصل الزمني كافياً لمزيد من “التورط” الفني الايجابي الذي قد يأتي به زياد؟


من «حَبّو بعضن» إلى «ولا كيف»
التعاون الأول بين فيروز وزياد كان في أغنية “حبو بعضن” حيث تجلّت موهبة زياد في التوزيع الموسيقي الأوركسترالي. وكان ينبغي الانتظار حتى عام 1979، لنشهد صدور أول ألبوم بعنوان “وحدن”. ثم شكلت “معرفتي فيك” نقلة نوعية، إذ راحت فيروز تدندن على إيقاعات البوسانوفا والجاز، الى جانب اللون الكردي في “عودك رنان” التي أصبحت جزءاً من الفولكلور اللبناني. وفي النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، أعاد الإبن توزيع مجموعة من كلاسيكيات “الأخوين رحباني”، مثل “نحنا والقمر جيران” و“هيلا يا واسع” و“نسّم علينا الهوا” التي صدرت في أسطوانة بعنوان “فيروز في الرويال فستيفال هول ـ لندن 1986”.
وتعتبر “كيفك انت” (1991) محطة أساسية في هذا التعاون. كما يشكل العام 1995 ذروة في مشروع فيروز وزياد، إذ شهد إعادة توزيع مجموعة أساسية من تراثها الغنائي، ووجدت أسطوانة “الى عاصي” طريقها الى الجيل الجديد، ثم تلتها “مش كاين هيك تكون” (1999)، و“بيت الدين 2000”، و“ولا كيف” (2001)....