أسامة غنمعرض «نشيد الصباح الصغير»، يدور حول رجلين أمام طاولة وستة كراسيّ، يمسكان بمكانس طويلة. يلقي نادج بورقة مجعلكة من جيبه على الخشبة، يكنسانها إلى أسفل الطاولة، حيث اصطفت أيضاً ست أوراق مجعلكة. بعدها، يكنسان ورقتين خارج الطاولة، ويضعان القمامة في جيبي معطفيهما الطويلين قبل أن يخلعا المعطفين ويشرعا في «الرقص».
صورة الرجلين اللذين يكنسان القمامة إليهما في بداية العرض، تقابلها صورة أخرى في نهاية العرض: يطوي الراقصان سترتيهما ليتألق جذعاهما المتعرّقان بعد خمسين دقيقة من الرقص، يجلسان متقابلين، ويرسم كل منهما قناع مهرج ياباني على وجه صديقه: نوع من الكيوغن، يعتمر كل منهما كيمونو. وعلى أنغام تانغو سترافنسكي، يتحركان ككلبين محدقين بالجمهور، قبل أن يعلك ميرسي شيئاً ويبصقه أمام الجمهور: كتلة خضراء من عشبة مقرفة. يتصارعان عليها قليلاً قبل أن يعودا إلى الهيئة البشرية... ويرقص كل منهما في زاوية من الخشبة.
الرحلة إذاً هي أيضاً من لمّ القمامة ــــ كما التقاط الحياة ـــ وصولاً إلى بصق الحياة والصراع التافه عليها. وسواد عالم نادج، الرافض لكل سردية أو منطق درامي مباشر في هذا العرض، يكفي بحد ذاته لالتقاط الإحساس بالتطور واكتمال شكل العمل الذي يعلن نهايته.
البقاء بين كائنين بشريين، بين رجلين مختلفين، هو إذاً القاعدة لسبع لوحات تتمفصل حول سبع قطع موسيقية مختلفة. تعبرها كلها تيمة التناظر والاختلاف التي تتجلى في أوضح صورها عندما يجلس كل راقص على كرسيّ ويرفع إطاراً من زجاج شفاف. يشكلان معاً لوحتين ــــ قناعين لجسمهما مع موسيقى بَلقانية فيها النشوة الكحولية والحس الجنائزي: اللوحة الجامدة، البورتريه، الأفيش المعمّم، يرفعها جسد حيّ ألغيت هويته، ويرقص الرجلان في دبكة بسيطة تزيد الصورة السريالية سوداويةً وسحريةً. بعدها يقدّم الراقصان أحد أجمل مقاطع عروض نادج الذي يحمل ميرسي المنثني مثل مسيح أو طفل.
أثناء عمله على هذا العرض، يروي جوزف نادج أنّه قرأ قصيدة لرينيه شار بعنوان «مزمور الصباح الصغير». ووجد فيها نوراً يلتقط إمكان الوجود المشترك لكائنين: بهذا المعنى، في التقاط نادج لميرسي عمل استثنائي: لا يرتفع ميرسي سوى سنتيمترات عن الأرض، لكنّ التعبير الصارخ في متانة جسد نادج، وليونة جسد ميرسي المستكين والمستسلم، يغدو أشد بلاغة من أي إنجاز حققه الراقصان قبلاً كل في عالمه.
«نشيد الصباح الصغير» هو إذاً إضاءة خاصة على إمكان الرقص المعاصر، باعتباره عالماً للفردانية والخصوصية التي تلامس كل شيء... باعتباره فن العرض الأقرب إلى الشعر بالتأكيد، مع بداية القرن الجديد. فبين الإطارين اللذين يرسم عليهما الراقصان آخر، يختبئان خلفه ويحركانه في آن... وبين كوب النبيذ الذي يكتشفانه أسفل كيس ورقيّ على الخشبة، بعدما كمّم كل منهما فمه بالقماش الأبيض... يغدو الرقص إمكان تحريك العناصر، تماماً كما هي في الخطوات الكلاسيكية أو النيوكلاسيكية أو التعبيرية أو الذهنية. نادج الحداثي حتى النخاع، صاحب الذائقة الأدبيّة وعاشق بارادجانوف إلى أقصى «ما بعد الحداثة»، يحدّق مع صديقه المنسحب من أي صراع في العالم، في الجمهور الصامت... وهما يحملان الكأس المترعة.