بقلم المطران غريغوار حداد*غريغوار حداد... مطران الفقراء والعروبة والتحرير | كنت قد آليت على نفسي أن ألتزم الصمت حول كل ما يقال وينشر، حفاظاً على الوحدة، وخدمة «للقضية»، لكن بعد الموجة العارمة التي اجتاحت جرائد لبنان من الأخبار الصحيحة أو نصف الصحيحة أو الخاطئة إلى التعليق عليها من قبل «المؤيدين» أو «المنتقدين»، وبعدما تأكدت بأنّ القضية ستغرق في هذا الخضم، وجدت أن من واجبي الخروج من صمتي، خدمةً للقضية، بل للوحدة أيضاً، لوضع النقاط على بعض الحروف.
ومما يؤسف له في هذا العالم المملوء بالكلمات أنّ غالبية «القضايا» تغرق هكذا، تنطلق قضية، فيكثر التعليق عليها، ثم التعليق على التعليق، وتنشأ مشاكل ومعارك جانبية على صعيد الفكرة، أو المنهج أو الأشخاص، وتصبح كل مشكلة ثانوية وكل معركة هامشية، قضية قائمة في ذاتها، وتضيع القضية الأساسية، وتصبح الوسيلة هدفاً، والهدف وسيلة، والمطلق نسبياً والنسبي مطلقاً.

ما هي القضية
لذلك، أول نقطة وأهمها هي توضيح حقيقة «القضية» التي تشغل الكثير من الناس في هذه البلاد، فهي ليست «قضية المطران حداد» كما أخذ يكتب بعض الصحف، وأخذ كثيرون يتألبون بالنسبة إليها، البعض معه، والبعض ضده. ولا هي قضية مجلة «آفاق» والحركة التي نشأت حولها، مع أنها كانت الظرف الذي منه انطلق وتأزم الصراع في المدة الأخيرة. ولا هي قضية الأفكار اللاهوتية المطروحة من خلال هذه المجلة، ومدى مطابقتها للإيمان الكاثوليكي، ولا هي قضية أبرشية بيروت، واستمراري في خدمتها، أو تنحيتي عنها. ولا هي العلاقة بين الكنيسة الشرقية الكاثوليكية وروما وحق هذه في التدخل في شؤون الشرق.
كل هذه ليست قضايا، ولكن مسائل ومشاكل جزئية وثانوية بالنسبة إلى القضية الأساسية، التي هي «قضية الانسان». بل هذه أيضاً يمكنها أن تكون فقط مسألة نظرية، ولا تبدأ بتشكيل قضية إلا عندما يصبح موضعها كل انسان وكل الانسان في مكان وزمان محددين، في الحاضر وفي بلاد أو مجموعة بلدان. فالواقع الذي يرزح تحته الانسان فرداً وجماعات ومجتمعات، في لبنان وفي البلدان العربية الأخرى، واقع التخلف والظلم والاستغلال والعبودية على أنواعها، والوعي لهذا الواقع، والرفض له، والتجمع لأجل محاربته والوصول إلى التنمية والعدالة والحرية، وإلى نضجه واكتماله على الصعيد النفسي والروحي والجسدي، هذا ما يشكل القضية الوحيدة التي تستحق أن يهتم لها كل انسان بل يضحي بوقته وذاته لأجلها، وبقية القضايا الثانوية والمسائل والمشاكل، لا قيمة لها الا بالنسبة إلى علاقتها بهذه القضية الاساسية.

تغيير المجتمع
فإن كان هذا المنطلق هو الصحيح تتلاقى حوله كل البشرية وفي أيامنا أكثر من أي وقت مضى، فالعمل في منطق هذا المنطلق يصبح الالتزام واجب كل انسان وعى ذلك، وعندما يكون المجتمع واقعاً في التخلف والظلم والاستغلال والعبودية، فالالتزام يصبح التزاماً بالتغيير.
والتغيير يعني تغيير كل بنيات المجتمع ومؤسساته وقوانينه وأنظمته التي لا تؤمّن التنمية والعدالة والحرية للجميع، ومن ثم التأثير بكل الوسائل التي تحترم الانسان، التأثير على من في يدهم مقاليد التغيير، أكان ذلك في القطاع العام، أم القطاع الخاص، للوصول إلى مجتمع أفضل، بل مجتمع يتطوّر دائماً نحو الأفضل. وهذا معناه أنّ في المجتمع من يريدون التغيير، وهم عادة الأكثرية الصامتة في غالب الأحيان، ومن لا يريد التغيير، لأنّ ذلك قد يضرّ بمصلحته أو امتيازاته. ومعناه أن الصراع قائم حتماً بين الفئتين. فالمطلوب أن يكون الصراع أقل ما يمكن من العنف، أكثر ما يمكن من الاحترام والمحبة لمؤلفي الفئتين، ولكن أيضاً من الفعالية في سبيل التغيير نحو التنمية والعدالة والحرية.

مساهمة المسيحيين في التغيير
وإن كان هذا المنطلق هو الصحيح، فالمسيحيون الذين يؤمنون حقاً بالمسيح، لا يمكنهم أن يكونوا غائبين عن معارك التنمية والعدالة والحرية. من أقوال المجمع الفاتيكاني الثاني، في بدء الوثيقة «الكنيسة في عالم اليوم»: «أن أفراح البشرية في عصرنا وآمالها وأحزانها وضيقاتها، ولا سيما الفقراء والمتألمين، هي أفراح تلاميذ المسيح وآمالهم وأحزانهم وضيقاتهم. وليس من شأن انساني ألا يجد صدى في قلبهم». ولا عجب، فإنّ المسيح الذي يؤمنون به لأجل الانسان: «لا ليخدم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فداء عن الجماعة» «لكي تكون لهم الحياة وتكون أوفر». وهذه الحياة الأوفر هي ولا شك «الحياة الأبدية»، ولكنها أيضاً الحياة في هذا العالم هي «الخلاص الأبدي»، ولكن أيضاً التحرر في هذا العالم من كل هذه العبوديات الداخلية والخارجية، الشخصية، الروحية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية.

تغيير «الكنيسة المؤسسة»
وإن كان هذا المنطلق هو الصحيح، فالمؤمنون بالمسيح لا يمكنهم أن يرضوا أن تكون الكنيسة إلا في خدمة الانسان، كل انسان، وكل الانسان، في المحيط الذي توجد فيه. ومن ثم كل ما فيها ضد الانسان يكون ضد المسيح والايمان به، ويجب تغييره لكي تصبح الكنيسة وفق ما أرادها ويريدها المسيح. أي إذا كانت «الكنيسة المؤسسة» في بنياتها وقوانينها وأنظمتها وطقوسها... لا تخدم الانسان كل انسان وكل الانسان، فالمطلوب هو التغيير في هذا السبيل، مهما تكن لذلك من نتائج على الذين يمنعون هذا التغيير. وما المجمع الفاتيكاني الثاني إلا عملية واسعة ودعوة عامة لأجل تغيير الكنيسة لكي تصبح شاهدة للمسيح وخادمة للانسان. عندئذ تصبح الكنيسة لا فقط في القول وفي «قانون الإيمان»، بل فعلاً وفي حياة المؤمنين كنيسة واحدة، جامعة، مقدسة، رسولية، ومتعاونة مع جميع المؤمنين بالله وبالانسان، أو بالانسان فقط، في سبيل الغالبية المشتركة الشاملة.
عندئذ أيضاً، يصبح الإيمان المسيحي بالله الآب والابن والروح إيماناً فعلياً بالمحبة الالهية، في ذات الله، وفي علاقة الله بالبشرية، وعلاقة البشرية بالله، وعلاقة أبناء البشر بعضهم ببعض.

التعددية أو التنوعية
وبسبب هذا المنطلق وهذه القضية الأساسية، يصبح كل ما سوى ذلك في هذا العالم نسبياً، كما يصبح التعبير عن الإيمان والمحبة، والعلاقة بين الله والانسان، وبين البشر أنفسهم، قابلاً للتعددية أو التنوعية. هذا ما صرح به المجمع الفاتيكاني أكثر من مرة، وما أخذ يمارسه اللاهوتيون والأساقفة وسائر المسؤولين الرسميين أو العاديين في الكنائس التي أخذت تطبق تعاليم هذا المجمع، وما حاولنا أن نقوم به في المقالات الدينية التي نشأ النزاع حولها.

توضيح بعض الأحداث
وهنا لن أدخل في تفاصيل ما حدث في السينودس الأخير، واعتبر ذاتي لا أزال ملتزماً بحفظ السرّ حوله. إنما أريد، منعاً لكل تكهّنات الصحف وتأويلاتها التي كثرت في هذا الأسبوع، أن أوضح، انطلاقاً من بيان السينودس، النقاط التالية:
بما أن السينودس قد أحال المسألة «على المراجع الرومانية لدرسها والحكم فيها»، لذلك:
– سأكتب ردي على تقرير البطريرك وتقرير المطران راعي، وأرسله إلى روما، فيضم إلى هذين التقريرين
– في روما سيكلف «مجمع الإيمان المقدس» أحد اللاهوتيين الذين يستشيرهم درس الملف وإعطار رأيه فيه.
– عندئذ سيطلب مني الذهاب إلى روما مع اللاهوتي المكلف، وغيره ممن يراه المجمع مناسباً. حوار، لا محاكمة، لان المجمع الفاتيكاني غيّر من منهجية هذا المجمع على هذا النحو.
– فإن وجد هناك تعابير تناقض الإيمان الكاثوليكي الذي لا أظن أنني حدت عنه أبداً، فإني كما صرحت أكثر من مرة، مستعد لأن أصحح تلك التعبير، وأنشره حيثما يلزم، كذلك إن كانت فقط هناك تعابير فيها التباسات، أحاول أن أزيلها.
– خلال هذه المدة، سأظلّ في خدمة أبرشية بيروت، كما قرر السينودس.

الحفاظ على الوحدة
وأريد هنا أن أعلن من جديد، كما قلت في السينودس أكثر من مرة، إني متمسك بالوحدة، ولن أرضى أن يحدث أي انشقاق بسببي. وإنه، وإن كان رأي البعض أني قد خرجت من هذه الوحدة، فإني أظل معتبراً نفسي في داخلها، بسبب التعددية في التعبير الذي ذكرته.
ولكن من جهة أخرى، أرغب أن أوضح أن الاختلاف في الأفكار والتعابير والمواقف هو من ضروريات المجتمع الانساني، الديني، والمدني، بل هو غنى لا بد منه لتطور المجتمع نحو الأفضل. والمهم ليس الوحدة الظاهرة التي تغطي انقسامات داخلية مهمة، بل الوحدة العميقة في الإيمان والمحبة، وهذه تتحمل الاختلافات من دون الوصول إلى خلاف وانقسام. عن هذه قال المسيح: «ما جئت لألقي على الأرض سلاماً بل سيفاً». وفي الوقت ذاته: «سلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم».
لذلك، رجائي الحار من كل الذي يتجمعون في «لجان المساندة»:
– أن يقتنعوا جميعاً بأنّ القضية ليست «قضية غريغوار حداد» والأبرشية، و«آفاق»، بل قضية الانسان بحسب ما ذكرت سابقاً.
– أن يحولوا إذن تأييدهم إلى تأييد هذه القضية والعمل لأجلها.
– أن ينتزعوا من فكرهم وقلبهم كل ما من شأنه أن يعكّر الوحدة التي صلّى من أجلها المسيح.
– «ليكونوا بأجمعهم واحداً، كما أنا وأنت أيها الأب واحد».
30/8/1974