«حرب البسوس» عنوان تقرير صدر أخيراً عن انتهاكات الصحف المصرية بعضها بحقّ بعضها الآخر... نكتشف أنّ «روزاليوسف» الحكوميّة تحتل المرتبة الأولى في فئة المنابر «الأكثر ارتكاباً للتجاوزات»
محمد خير
ليس غريباً أن تملأ الميديا فراغاً كان يُفترض بسياسيين ملؤه. عندما تكون الأحزاب محاصرةً والتظاهرات ممنوعةً، يفيض الصنبور السياسي فيتسرّب إلى النقابات واتحادات الطلاب و... الصحف اليومية في مصر. من المعتاد الحديث عن «هامش حرية التعبير»، لا عن «حرية التعبير». لذا كلما اتّسع الهامش، زادت التناقضات الاجتماعية وضوحاً في وسائل التعبير المتاحة. وإذ تَلقى الصحف رواجاً في الشارع المصري، فإنّها تعد أبرز ساحة لتنافسات سياسية لا يتاح لها أن تكون بهذه السخونة في مكان آخر، أو أن تتوافر في أماكنها الطبيعية، حيث يفترض أن يحسمها صندوق انتخابات مغلق لغير دواعي الشفافية. «حرب البسوس» هي التسمية التي اختارها مركز «الأندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف ــــ مشروع عين على الصحافة» لتقريره عن تجاوزات الصحف المصرية بعضها ضد بعض.
لو كان ثمة أي ملمح إيجابي للمراتب التي منحتها الدراسة، لكانت «روز اليوسف» تفخر بما حقّقته. لكنّ «إنجازها» المتمثل في احتلال المركزين الأول لـ «جريدة روزا» والثالث لـ «مجلة روزا»، جاء في سياق الأكثر ارتكاباً للتجاوزات بحق إعلاميين وصحف زميلة. والطريف أنّ النسبة التي حقّقتها المطبوعتان (46.2 في المئة) أسهم رئيس التحرير نفسه عبد الله كمال في إنجازها، مرتكباً وحده ربع التجاوزات بين الإعلاميّين الذين شملتهم الدراسة. ليس غريباً أن يكون ضحية معظم تجاوزات «كمال»، محمد حسنين هيكل الذي احتل المركز الأول في «ضحايا الانتهاكات الصحافية» بنسبة 17.6 في المئة. ما دعا إلى تصنيف «الأستاذ» في فئة خاصة بصفته الأكثر تعرضاً للتجاوزات على الإطلاق، تلته الصحف الخاصة والمستقلة والمعارضة في فئة الأكثر تعرّضاً للتجاوزات.
الدراسة (غطّت نهاية 2007 ــ بداية 2008)، تفيض بالأرقام التي تبرز سحر علم الإحصاء وتفاجئ باستخدام لغة الرياضيات بحقائق تخالف الانطباعات السائدة. إذ يعتمد عادةً الخطاب «الحكومي» و«المعتدل» على اتهام الصحف المعارضة والمستقلة بعلوّ الصوت والغوغائية. لكنّ تقرير «الأندلس» يأتي ليكشف أنّ الصحف الحكومية هي الأكثر ارتكاباً للممارسات التي تجهر بإدانتها. إذ لم تكتفِ «روز اليوسف» الحكومية بأن احتلت المركزين الأول والثالث، بل توسطتهما في المركز الثاني«الوطني اليوم» المعبّرة «رسمياً» عن الحزب الحاكم. ولم تشأ الصحافة الحكومية أن تكتفي بالدرجات الثلاث الأولى، بل لحقت «الجمهورية» بالمركز الرابع، بينما حقّق رئيس تحريرها محمد علي إبراهيم موقعاً «أفضل». إذ جاء في المركز الثاني في قائمة الصحافيين الأكثر ارتكاباً للتجاوزات بعد نظيره في «روزا» التي جاء رئيس مجلس إدارتها كرم جبر في المركز الثالث. وليست مفاجأة أن يظهر اسم «الأهرام»، فيحتل رئيس تحريرها أسامة سرايا المركز الرابع.
المفارقة تزداد وضوحاً عند النظر إلى التجاوزات التي ارتكبها الحكوميّون في حق الصحف الخاصة. إذ تحدّدها الدراسة في التشهير بتلك الصحف واتهامها بالتلفيق وإثارة الفتن وصولاً إلى العمالة للخارج! والسؤال: ماذا تركت الصحف الحكومية «الرصينة» إذاً لمن تعتبرها «صحفاً صفراء»؟ ولا يمكن إلّا أن تثار مقارنة أخرى بين قائمة الاتهامات تلك ومثيلتها التي تصمّمها عادةً أجهزة الأمن العربية. الإدانة التي تؤكدها «الأرقام» لا يقلل منها كثيراً أنّ مجلة حكومية عريقة هي «المصور» جاءت ضمن فئة المطبوعات الأقل ارتكاباً للانتهاكات إلى جوار صحيفة «الكرامة» الناصرية.
ليست مفاجأة أن تكون أسماء الصحافيين والمؤسسات الأكثر تعرضاً للانتهاكات، بعد هيكل هي «الصحف الخاصة» ثم جريدة «الدستور» ثم الصحف المعارضة الحزبية: إبراهيم عيسى رئيس تحرير «الدستور» في المركز الخامس تليه «المصري اليوم»، ثم عادل حمودة رئيس تحرير «جريدة الفجر» ويأتي عاشراً مجدي الجلاد رئيس تحرير «المصري اليوم». والمفاجأة أن عبد الله كمال نفسه رئيس تحرير «روز اليوسف» والأكثر ارتكاباً للتجاوزات يأتي في المركز الـ11 ضمن الأكثر تعرضاً للانتهاكات ما يؤكد أنّ كتاباته لم تكن دون رد فعل.
إن الخطورة التي يفصح عنها تبادل الاتهامات بين الصحافيين المصريين لا تقلل من خطورة أخرى تنبع من الأسباب السياسية لتلك «المعركة». وهي أسباب لا تعبّر حتى عن مجتمع منفتح سياسياً تتصارع فيه الأطياف الاجتماعية، بل عن انقسام حاد بين السلطة وكل مؤسسة تحاول أن تنتزع حيّزاً من الاستقلالية حتى لو اقتصرت على استقلالية «الكلام» التي تصبح هدفاً لا وسيلة. هدف ينهك المحاربين من أجل الحفاظ عليه، فلا تبقى لديهم طاقة لما هو أكثر.