«عيد التنّورة»: نظرة قاسية إلى الواقععثمان تزغارت
منذ البداية، أدرك المخرج جان ــــ بول ليلينفيلد أنّه يسبح عكس التيار. كان واضحاً له ولفريق فيلمه الجديد «عيد التنّورة»، وفي مقدّمتهم إيزابيل أدجاني (راجع البورتريه الخاص بالنجمة الفرنسيّة في زاوية «أشخاص»، الصفحة الأخيرة)، أنّه من الإشكالي تقديم شريط ذي نبرة واقعيّة، نقديّة، عن قسم دراسي في أحد أحياء الضواحي الباريسية، بعد أشهر من النجاح الذي حقّقته رائعة لوران كانتيه «بين الجدران» (السعفة الذهبية في «كان» 2008) الذي تناول التيمة ذاتها، لكن بشكل مغرق في الإيجابية والتفاؤل. لكنّ أحداً لم يتصوّر أنّ الأمر قد يبلغ حد محاولة وأد الفيلم! هذا عمليّاً ما قام به موزّعو السينما في فرنسا. رغم الحفاوة النقدية التي حظي بها، اقتصر توزيع الفيلم على 50 صالة في مختلف أنحاء فرنسا. خمسون صالة فقط في بلد فولتير قبلت ببرمجة الفيلم. ما يعني أنّه يحتاج إلى معجزة كي يشق طريقه إلى الجمهور الواسعوكان على منتجي الفيلم ابتداع حيلة للالتفاف على مماطلة الموزّعين، تارة بسبب «النبرة السوداوية المغرقة في التشاؤم عن واقع أحياء الضواحي» (ذلك أن «الساركوزية» مرّت من هنا!) وطوراً بحجّة أنّ الغياب المطوّل لبطلته إيزابيل أدجاني جعلها غير معروفة لدى الأجيال الجديدة التي تمثّل غالبية روّاد صالات السينما. ولأنّ قناة «آرتي» شاركت في إنتاج الفيلم، فقد فُكِّر في تقديم عرض تلفزيوني أول ووحيد على شاشتها، أملاً في اجتذاب الجمهور، وكسر «فيتو» الموزّعين... والمعروف أن محطّة «كانال +» المشفّرة، جرّبت بنجاح هذه الاستراتيجيّة في التحايل على الرقابة غير المعلنة، لدى إطلاق فيلم كارل زيرو الساخر «في جلد جاك شيراك» (2006).
هذه المرّة، شكّك كثيرون في قدرة «عيد التنّورة» على اختراق حصار الموزّعين، لأنّ «آرتي»، بخلاف «كانال +»، قناة ثقافية محدودة الجمهور... لكن المعجزة حدثت وشاهد الفيلم على «آرتي» 2,3 مليون مشاهد. وهو أعلى رقم مشاهدة تحقّقه القناة منذ تأسيسها عام 1987. وبذلك، وجد الشريط طريقه إلى الصالات واكتشف الجمهور أدجاني في أحد أجمل أدوراها منذ «كاميّ كلوديل» (1988). إذ تقمصت دور مدام بيرجوراك، مدرّسة اللغة الفرنسية في أحد أحياء الضواحي الباريسية التي تفقد أعصابها بسبب مشاكسة تلامذتها، خلال درس عن موليير (هل هي إشارة ساخرة إلى «بين الجدران»؟)، فتشتبك مع أحدهم، محاولة إخراجه بالقوة من الفصل. وإذا بمسدس يقع من محفظته، فتمسك به وتحتجز تلامذة الفصل رهائن لإرغامهم على متابعة الحصّة الدراسيّة! رغم أنّ أحداث الفيلم تدور في الحيز المغلق للفصل الدراسي المحاصر من عناصر الشرطة، إلا أنّه استطاع ـــــ على مدى ساعة ونصف، وعبر المواجهة المفتوحة بين المُدرِّسة وتلامذتها ـــــ تسليط الضوء على واقع أحياء الضواحي، المأهولة بغالبية من أبناء المهاجرين. نظرة تتسم بقدر من الصّدق والواقعية وصفاء الرؤية لم تعرفه السينما الفرنسية منذ رائعة ماثيو كاسوفيتش «الحقد» سنة 1995 (راجع البرواز).
يفضح الفيلم النزعة الذكورية المسلّطة على بنات المهاجرين في أحياء الضواحي، وموضة التديّن التي يجد فيها المراهقون (الذكور) وسيلةً لتحقيق أحلامهم، بأن يكونوا «زعماء عصابات». هذا التديّن لا يمنع بعضهم من التورط في ممارسات إجرامية، كالعنف والسرقة وارتكاب جرائم الاغتصاب الجماعية التي تُصوّر على الهواتف الخلوية، للمفاخرة بها أمام «زعماء» العصابات الأخرى.
تدريجاً، تستطيع مدام بيرجوراك أن تستميل معظم تلامذة الفصل، فيتمردون على الأقلية المتسلطة عليهم، ويقتلون أحدهم من دون قصد. ما يوصل أحداث عملية الاحتجاز إلى نقطة اللارجوع. تقرر مدام بيرجوراك المضي في المواجهة، مشترطة على الشرطة ألا تفرج عن تلامذتها الرهائن إلا إذا أعلنت وزارة التعليم رسمياً تخصيص «عيد سنوي للتنّورة» يُسمح خلاله لبنات الضواحي بأن يرتدين ملابس ذات طابع أنثوي، من دون التعرّض لتهم الميوعة والانحراف.
أما لحظة الذروة، فتتمثل في المشهد المفتاحي حين تُحضر الشرطة والدي مدام بيرجوراك بهدف إقناعها بالاستسلام، قبل اقتحام الفصل ومقتلها. إذ يُفاجأ تلامذة الفصل المحتجزون بأنّ مدام بيرجوراك تتحدّث مع والديها بالعربية، وأنّ اسمها الصغير هو صونيا! عندها يفهمون أن نبرتها القاسية في التحدث إليهم («عليكم بالدراسة، فإذا كنتم عرباً أو سوداً و... جهلة، فلا مستقبل لكم في هذا البلد!»)، لم تكن نابعة من نزعة عنصرية، بل كانت نصائح أخوية من صميم تجربة الجيل الذي سبقهم من أبناء المهاجرين.
يبقى السؤال: ما الذي أزعج الاستبلشمنت السينمائي الفرنسي إلى هذا الحد في فيلم يحمل خطاباً علمانياً أحوج ما يكون إليه بلد فولتير في ظل النزعات الأصوليّة التي تشهدها أحياء الضواحي، كنوع من ردة الفعل حيال المد العنصري الزاحف منذ منتصف الثمانينيات؟
لا شك في أنّ تفسير ذلك يكمن في «المنطق الساركوزي» (نسبة إلى رئيس الجمهوريّة الحالي المعروف بمواقفه المتشدّدة والقمعيّة من الضواحي وأهلها، منذ كان وزيراً للداخليّة في حكومة شيراك). منذ انتفاضة الضواحي عام 2005، يستحسن تفادي الحديث عن مشاكل أحياء المهاجرين، للإيحاء بأنّ «السوبر ــــ رئيس» صانع الخوارق، استطاع حلّ تلك المشاكل. وللتأكيد على هذا «النجاح» الساركوزي، يُركَّز على حالات معزولة، ونجاحات فردية، وبضع حالات كاريكاتورية لبنات مهاجرين أصبحن وزيرات يُتباهى بهنّ بشكل استعراضي أمام عدسات المصورين، وهن يرتدين فساتين «ديور» ومجوهرات «كارتييه».

الخروج من «الغيتو» إلى الشاشة الفرنسيّةالمنعطف الحاسم في إبراز الأوضاع المتأزمة لأحياء الضواحي كان 1995، حين حاز ماثيو كاسوفيتش جائزة أفضل إخراج في «كان» عن «الحقد». ثم فاز بثلاث جوائز «سيزار»، ورُشِّح للأوسكار، واقتحم الأسواق الأميركية بفضل حملة تأييد من جودي فوستر التي أُغرمت
بالشريط.
النجاح الذي حقّقه «الحقد» أفرز موجة أفلام حاولت ركوب الموضة، عبر تصوير قصص، كوميدية غالباً، تدور في أحياء الضواحي. من أكثر تلك الأفلام تميزاً «راي» (إخراج توما جيلو ــــ 1995) الذي كان أول شريط صوّر قصة حب بين شاب وشابة من أبناء الضواحي.
بعد عشرة أعوام، أنتج لوك بوسون فيلماً على الطريقة الهوليودية بعنوان Banlieue 13، أخرجه بيار موريل، وكان مستوحى من عنف ألعاب الفيديو، تدور أحداثه في الضواحي الباريسية. ويتنبّأ الفيلم بأنّها ستتحول بحلول 2013 إلى مناطق خارجة على القانون تتنازع النفوذ فيها عصابات عرقية متناحرة. وفي مطلع السنة الحالية، قُدّم جزء ثان من هذا الفيلم، لكنّه لم يحظ بأي صدى نقدي أو إعلامي، بخلاف الحفاوة الكبيرة التي استُقبل بها الجزء الأول منه (هل هي «المكارثية الساركوزية» مرة أخرى؟).
قبل أشهر من انتفاضة الضواحي، في خريف 2005، قدّم محمود زموري Beur Blanc Rouge الذي سلّط الضوء في قالب تراجيكوميدي على أزمة الهوية التي يتخبط فيها شبان الضواحي. ثم غابت الضواحي عن الشاشة حتى أحدث لوران كانتيه المفاجأة بفوزه بـ«السعفة الذهبية» في «كان ــــ 2008» عن «بين الجدران» المقتبسة من سيرة ذاتية لمدرس فرنسي يدعى فرانسوا بيغودو (أدى بنفسه دوره في الفيلم). ويروي المدرّس كيف استطاع أن يُخرج شبان ضواحي مهمّشين من «الغيتو» اللغوي والعرقي، عبر حبّ الأدب والمسرح. وهي التيمة التي تناولها عبد اللطيف قشيش في «المراوغة» (2004) الذي حصد 5 جوائز «سيزار».


يقدّم «المركز الثقافي الفرنسي» في بيروت العرض الأول لـ «بين الجدران» بحضور مخرجه لوران كانتيه (السعفة الذهبيّة في «مهرجان كان» ـ 2008) وذلك في السابعة والنصف من مساء الخميس 23 الحالي (ABC الأشرفية). وسيُعرض الشريط في صالتي ABC و»غراند كونكورد» ـ للاستعلام: 01/209109