يسلط أحمد أصفهاني الضوء على أحد الوجوه المنسيّة للكاتبة اللبنانيّة/ المصريّة: مي الصحافيّة التي واكبت معارك عصرها السياسيّة والفكرية، ووضعت اللبنات الأولى لـ«النسويّة» العربيّة، معتبرة تحرر المرأة قضيّة نهضويّة عامة
سناء الخوري
فتنت مي زيادة مصر، في العشرينيات. صاحبة «صالون الثلاثاء الأدبي»، الشاعرة والأديبة التي شغَلت الأجيال اللاحقة بمراسلاتها مع جبران خليل جبران، كانت لمعاصريها أكثر من ذلك بقليل. كانت «الأنثى السافرة المتحررة المثقفة المتحركة، في وسط محافظ لم يكن الاختلاط فيه أمراً معتاداً». وفي كتابه «مي زيادة... صحافيّة» (دار الساقي)، يكشف الكاتب أحمد أصفهاني عن صورة جديدة لزيادة، قبعت في أدراج النسيان، بعدما طغت أسرارها الخاصّة، ومأساة الحجر عليها في مستشفى الأمراض العقليّة، على تناول أثرها الأدبي والصحافي.
في «الأهرام» و«المقتطف» و«الزهور»، وغيرها من الصحف، قرأ معاصرو مي افتتاحيات تحمل توقيعها، وواكبت الشابة رئاسة تحرير والدها إلياس زيادة ليوميّة «المحروسة» منذ 1909. في كتابه، يتطرّق الأصفهاني إلى علاقة محتملة لزيادة الأب بالماسونية، بعدما تنازل أحد أثرياء مصر إدريس الراغب عن امتياز «المحروسة» لمصلحته. يذكر ذلك في سياق الحديث عن المجالات الواسعة التي فتحتها مكاتب «المحروسة» لمي. هناك، تعرفت على أكبر صحافيي عصرها، وراكمت تجارب مكّنتها من «تحديد جوانب من الأطر التنظيريّة لمفهوم العمل الصحافي المتوافق مع متطلبات النهضة الفكريّة».
لكنّ الجزء الأكبر من البحث ـ السيرة، يتمحور حول مرحلة ساحرة في حياة زيادة المهنيّة: إنّها فترة إشرافها على «القسم النسوي الاجتماعي» في «السياسة الأسبوعيّة». وجد الباحث طريقه للكشف عن تلك المرحلة المبهمة من حياة صحافيتنا، حين اطّلع مصادفةً على مجلّدات أصدرتها «الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القوميّة» في مصر، بمناسبة مرور 40 سنة على رحيل محمد حسين هيكل (1888 ــــ 1957) رئيس تحرير جريدة «السياسة». هذه اليومية التي كانت تصدر باسم «حزب الأحرار الدستوريين»، وكتب فيها طه حسين أطلقت ابتداءً من 1926 «ملحقاً ثقافياً فكرياً أسبوعياً حمل اسم «السياسة الأسبوعيّة»».
في هذا الملحق، تولّت مي مهمّة تحرير (وابتكار) أربع صفحات تحت ترويسة «النسوي»، ابتداءً من العدد 35 الصادر في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1926، واستمرّت في مهمتها أربعة أشهر. كانت تلك المرة الأولى والوحيدة التي تشرف فيها على قسم في جريدة، وتسبغ عليه من شخصيتها. يكشف هذا الخيار المهني عن تحوّل في موقف صاحبة «سوانح فتاة» من تولي مسؤولية التحرير، خصوصاً أنّها تجنّبت طويلاً العمل في الصحف النسائية. موقفٌ كان نابعاً من قناعة زيادة بضرورة تجاوز مشروع الكتابة النسائية الصرفة نحو مشروع اجتماعي نهضوي شامل.
تسرد الفصول الأولى التجربة التحريريّة بالتفصيل، لتحتلّ المقالات النادرة الموقّعة باسم زيادة، الجزء الثاني منه، تحت عناوين منها: «حديث مع مدير بنك»، «الفتاة المصرية وموقفها اليوم»، و«أخ يقتل أخته لسوء سلوكها» وغيرها... أمّا «النسوي» فقد كان له هيكيلية واضحة عبارة عن مجموعة صور، ومقال أساسي لمي وباب يحمل ترويسة «أصوات نساء» مرّة و«أصوات رجال» مرّة أخرى ـــــ انطلاقاً من إيمان مي بأنّ تحرر المرأة مستحيل من دون تكاتف جهود النساء والرجال معاً. اعتمدت زيادة أيضاً على ترجمة مقتطفات من جرائد أوروبيّة بتصرّف، عبر اختيار ما يتناسب مع خصوصيّة المجتمع المصري. ويبقى باب «خلية النحل» الذي جعلت منه رئيسة القسم مساحة تفاعليّة بينها وبين القرّاء، «الفتح المبين» الذي حققته زيادة في الصحافة. الباب الطليعي الذي يقوم على مبدأ السؤال والجواب، استقطب شريحة واسعة من القرّاء الشباب الذين شاركوا فيه عبر المراسلة، وشهد مناقشات حامية تخدم ذلك المشروع النهضوي الذي تبنّته مي. فقد كانت الأسئلة تدور حول الزواج والطلاق وعمل المرأة والسفور والموسيقى والتبرّج وتعدد الزوجات، وقد وقّعت مي إجاباتها عنها بأسماء مستعارة مثل «آنسة حديث»، «النحلة الكبيرة»، و«ابنة التطوّر».
من خلال كتاب أصفهاني، تبدو مي الابنة الرهيبة لعصرها، تواكب النقاش الفكري والسياسي حول مشروع نهضوي جديد في العالم العربي، وتعيش تبعات ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول في مصر، وشاركت فيها نساء للمرّة الأولى وأدت إلى إصدار دستور عام 1923. نرى هنا أيضاً، أنّ تلك «النحلة» التي يفاخر بإرثها لبنان ومصر، «كانت امرأة كاتبة، لا كاتبة للمرأة».