سيكون من المفاجئ ألا تنافس «ملحمة السراسوة» («دار ميريت» ـــــ القاهرة) بقوة على جائزة «بوكر العربية» هذا العام، أو تدخل القائمة القصيرة على الأقل. هذه الرواية الساحرة التي فاجأت قراءها، تلقى تقديراً نقدياً بطيئاً، لا عن قلة إعجاب، بل عن قلة قراءة. ففي زمن الرواية القصيرة، تأتي «ملحمة السراسوة» كتاباً من 500 صفحة من القطع المتوسط. وهذا المجلّد ليس الرواية كلّها، بل نحن هنا بصدد جزئها الأول فقط «الخروج». ستلي هذا الكتاب، أربعة أجزاء تالية، سجّل المؤلف أحمد صبري أبو الفتوح عناوينها في خلفية الجزء الأول، وهي «التكوين»، و«أيام أخرى»، و«شياطين وملائكة»، و«حكايات أول الزمان».
من هنا يبدو مفهوماً سرُّ التأخّر في قراءة هذا العمل البديع
قد تنافس «ملحمة السراسوة» على جائزة «بوكر»
لا تأتي رواية الأحداث تاريخية جافةً، بل منسوجة بخيط درامي رائق يتتبع رحلة عائلة السراسوة التي أنشأت مدينة «سرس الليان» الشهيرة في دلتا مصر، قبل أن تخرج منها. قصّة تناقلتها مرويات تلك العائلة، وحفظها أبو الفتوح عن جدته لأبيه وأبيه.
البداية منذ إرسال الشيخ موسى السرسي طفلاً في قافلة مهيبة ـــــ أعدّها أبوه ـــــ إلى «مصر» للدراسة في «الأزهر». هناك، يصبح شيخاً كبيراً ورجلاً من المعتدّ بهم. تتواصل الحكاية حتّى يجد أحفاده أنفسهم مشتّتين مبعثرين يائسين من عودة قريبة إلى بيوتهم. يضطرون أخيراً إلى بناء بيت في «الغربة»... وهذه «الغربة» هي الإنجاز الفني الأكبر للرواية. إذ إنّ المسافة التي قطعها الأحفاد الهاربون لا تزيد ـــــ في الحقيقة ـــــ عن بضع عشرات من الكيلومترات. لكنّ اللوحة التي رسمها المؤلف بريشة زمانها، جعلت القرى والبلدات التي يقطعها قطار اليوم في دقائق، تبدو لنا أحراجاً وغابات وأودية. يجعلنا أبو الفتوح نراها بعيون أبطال الرواية الذين تفرقوا عبر الرحلة حتى تقلصوا إلى رجل وبضع نسوة، استقبلوا مولودهم الأول في الشتات.
وإذا بالحقيقة تفرض نفسها فيتأمل رجلهم أحمد الثاني جبّانة قريبة، ويقرأ الفاتحة للأموات، قبل أن يقرر أن «من يبنِ داراً تلزمه مقبرة».