باريس ــ عبد الإله الصالحي«العالم بدأ قبل الإنسان وسينتهي من دونه». هكذا كتب كلود ليفي ـــــ ستروس في «مدارات حزينة»، مدشِّناً رؤية كارثية ومتشائمة للمسار الذي خطته البشرية، رؤية ستلازمه حتى اختفائه.
من خلال هذا الاستنتاج السوداوي البارد، المبني على معاينة علمية صارمة، نستطيع أن ننظر بطريقة مغايرة إلى تراث ستروس ومساره المعرفي المتشعّب. تراث ضخم وعصيّ على الفهم السهل ويحتاج إلى عشرات الكتب وإلى ثقافة موسوعية ضليعة كي يُستوعب منجزه، لكنّ حجر الزاوية في جهده الأكاديمي يبقى بسيطاً وفي غاية الراهنية: كل ثقافات العالم مهما اختلفت وتباعدت لها القوة نفسها والبنية نفسها وتشتمل على العناصر نفسها التي تنظم العلاقة بين المجموعات البشرية وبين المجتمعات والطبيعة.
وفي هذا تتساوى ثقافة المجتمعات الغربية مع ثقافة القبائل الهندية في البرازيل أو أفريقيا. هذه الفكرة التي أعلنها ستروس بقوّة في «مدارات حزينة» ورسّخها في ما بعد في «الفكر البدائي» كانت لها حمولة سياسية قوية في مجال العلوم الإنسانية التي كانت متشبّثة بجدار فصل «علمي» يفرّق جوهرياً بين الثقافة الغربية المتحضّرة وبقية الثقافات «الوحشية والمتخلّفة».
ستروس حطّم هذا الجدار وخلق اثنولوجيا جديدة تتعامل مع ثقافة الآخر باحترام وبجدية بعيداً عن الطروحات والأحكام الكولونيالية المغلّفة بالادّعاءات العلمية.
ثمة حقيقة حجبها الصراع المرير بشأن البنيوية والهجوم الشرس على ستروس باعتباره مؤسسها وعرّابها. هجوم قادته الوجودية والماركسية ورسّخت من خلاله فكرة مغلوطة ترى أن نظريات ستروس البنيوية لا تعطي أيّ أهمية لسياق التاريخي، وتسجن نفسها في قوالب ذهنية جامدة خالية من أي بعد إنساني. فيما ستروس أسّس لمدرسة جديدة تضع نصب عينيها الرغبة في لقاء الآخر.
الآخر المختلف، المتوحش، الغامض، الملتبس تحوّل إلى موضوع اهتمام معرفي وعلمي، وصارت عاداته وطقوسه بمثابة كنز لا ينضب بالنسبة إلى العلوم الإنسانية.
بفضل ستروس، انتبه العالم إلى طفولته المنقرضة وإلى جذور ما انفك يقتلعها. وهو بهذا كان الرائد الأول للفكر البيئي في صيغته الحالية. فقد كان مدافعاً شرساً عن الثقافات المهددة بالزوال، ويعدّ اختفاءها التدريجي بمثابة إنذار بنهاية وشيكة للثقافة الإنسانية
برمّتها.
وفي غمرة الحديث المتحمّس عن العولمة، كان يحذر من أنّ هذه العولمة هي الضربة القاضية التي ستنهي الاختلاف، اختلاف الثفافات والمجتمعات، وتجعل من العالم نسخةً مكرورة بلا روح ولا ثقافة.
كان ستروس مغرماً بالقرن التاسع عشر، فكراً وأدباً وموسيقى. كان يكره القرن العشرين ويعدّه فصلاً مجرماً في تاريخ الإنسانية، بحروبه المدمرة ومنجزاته العلمية. ستروس كره أيضاً عمره الطويل، هو الذي قال في عام 1995 متهكّماً إنه لا يزال على قيد الحياة بمحض المصادفة.
ذلك أن الرجل ـــــ وهذا «إنجاز» لم يقدر عليه أحد من مجايليه الكبار في الفكر والثقافة الفرنسيتين ـــــ عاش مئة عام بالتمام والكمال، ولم يكن يفصله سوى بضعة أيام عن عيد ميلاده الواحد بعد المئة.
ولأنه كان مرعوباً من صيغ الاحتفاء الضخمة التي نُظّمت له في العام الماضي احتفاءً بعيد ميلاده المئة، فقد قرر أن ينسحب بهدوء. هكذا، ترك وصية بعدم إعلان موته سوى بعد دفنه. وعندما أعلنت وفاته الثلاثاء الماضي، كان جثمانه قد ووري في الثرى في منطقة «لافيرون» المعروفة بطبيعتها المتوحّشة في ما يشبه العودة إلى أصل قضى حياته ينهل من كنوزه. وعندما سئل خلال أحد اللقاءات في عام 1974 مع مَن يحب أن يقضي ليلة جميلة كان جوابه حازماً: «مع قطة أو كلب ربما، وقطعاً ليس مع أي
بشريّ».