سناء الخوري«موعدكما عند الرابعة في أحد المقاهي. الساعة الرابعة ودقيقة، ولم يأتِ. الرابعة ودقيقتان، ولم يأتِ. الرابعة وخمس دقائق، ولم يأتِ بعد... ما أوّل ما يخطر في بالك عندها؟» سألها شوقي عازوري. أجابت المرأة الشابة: «كرهني فغيّر رأيه، أو تعرّض لحادث سيارة ومات». «في كلتا الحالتين (الكره أو الحادث)، يصبّ هاجس مَن ينتظر على فكرة واحدة هي الفناء أو الموت»، جزم الطبيب والمحلل النفساني الشهير. سألت نفسها عن قصده من هذا المثال؟ كانت تسأله عن الحب والغرام والعشق والهيام، فإذا به يخبرها عن الموت!
بدا ديكور عيادة عازوري معداً بعناية لمحاكاة اللغز. إلى يساره، كرسي التحليل النفسي ذي الجلد البني المثخَن بـ35 عاماً من الخبرة. خلفه، لوحة مخيفة آسرة: فتاة راكعة بكامل عريها، ويديها مثبّتتان على مذبح كنيسة، تحيط بها مجموعة متّشحة بالسواد. يبدون كأنهم يجلدونها قبل الموت، لكن من دون سوط. على يمينه، مكتبة تحوي كدسات كتب، يخرجها عازوري من رفوفها مساء الخميس الثاني من كلِّ شهر. في هذا التوقيت، يضرب المحلل النفسي موعداً مع المهتمّين بسماع محاضرات في الحب. في مجمّع «لي كرينو» في أحد أحياء الأشرفيّة في بيروت، يتخذ من السينما والرواية والشعر باباً لتشريح العاطفة الإنسانية الأكثر إشكاليّةً.
يحوم الدكتور حول لغزه الأثير. «فلنراقب الرضيع الذي تأخرت أمّه عن إطعامه»، يقول. «عندما تحمله إلى صدرها، يشيح بوجهه عنها، كأنّه يعاتبها. حين تحضنه، يلتفت إليها تدريجاً، ينظر إلى وجهها، ثمّ يضحك لها. ألا يشبه بتصرفه هذا العاشق العاتب على حبيبه حين يتأخر هذا الأخير عن موعده قليلاً؟». قلق العاشق «الناطر» إذاً، هو نسخة مكررة من لهفته إلى ثدي أمّه حين كان رضيعاً جائعاً. في تلك اللحظات الأولى من حياتنا، نتعلّم الغرام... لا مكان للحب كلّه في حياتنا من دون هذا الدرس الأول، وهذه التجربة الأولى.
«قبل أن يكتشف الولد (صبياً كان أو بنتاً) الفوارق الجنسيّة، يعيش حتّى يبلغ الثالثة حالة غرام كاملة مع أمّه»، يشرح عازوري. ثمّ يستشهد بقصيدة لأندريه بروتون: «الحب هو اللقاء مع من يقول لنا أخبارنا». «يتوجه شعور الغرام البدائي والأصلي نحو الأم، لأنّها تخبر الطفل بأخباره... تقول له إنّه جائع وتطعمه، إنّه بردان وتدفئه، إنّه عطشان فتسقيه، إنّه خائف فتحميه. حين تتأخر الأم يشعر الطفل بقنبلة ذريّة تنفجر داخله. لا يشعر هنا بألم عادي، بل يحسّ بأنّه اقترب من الموت والفناء الفعلي. هنا يدخل في حالة من الهلوسة، فيتخيّل صوت أمّه ورائحتها حتّى قبل أن تأتي».
بحسب عازوري، يذوق الإنسان الحب الخام قبل أن تتكوّن رغباته الجنسيّة ويصبح كائناً اجتماعياً. عندما يكتشف الصبي عضوه الذكري، وتعتقد الفتاة أنّها مخصية لأنّها لا تملك مثل هذا العضو، يحصل الشرخ العاطفي الأول. يكبت الصبي مشاعره السفاحية تجاه أمّه، ويروح يبحث عن صورتها في النساء اللواتي يحب. أمّا الفتاة، فتحتقر أمها لعدم امتلاكها عضواً ذكرياً، وتروح تبحث عن رجل يشفيها من نظرة الأم الأصليّة. في هذه الدوامة، يتمزّق لاوعينا بين نزعتين: نزعة الحب ونزعة الموت. الانفصال الأولي عن الأم يدخلنا في نقص يشبه الموت، نعوّضه حين نعشق ونحب. «هذا النقص هو موت فعلي. إنّه ليس ألماً ولا عذاباً ولا شوقاً، إنّه نزعة الموت في أقصى تجلياتها وأعمقها». فليذهب كل من ليس عاشقاً إلى الجحيم إذاً! فمن لا يحب شبحٌ يتبرّج بألوان الحياة. هذه تعاليم علم النفس التحليلي، وهذا ما فهمه بطل غوته الشهير ويرذر، حين اختار الفناء الجسدي على الموت حياً من دون هوى شارلوت...
أما النقطة المركزيّة في الحب، فهي العناق. إنها لحظة العشق القصوى بحسب عازوري. «أول ما يفعله العاشقَين حين يلتقيان هو العناق الحار... وذلك قبل أن يفكرا بالجنس حتّى». يتحوّل الوقت في هذه اللحظة إلى ما يشبه الأبديّة، في تقليد حرفي لعناق الأم وطفلها. لكن أليست الرغبات الجنسيّة المحرك الحقيقي والأول للحب؟ أليس الاكتفاء الجنسي ما يبتغيه العاشقان في الأساس؟ «الجنس يملأنا، يسد النقص الأصلي الناتج من انسلاخنا عن الأم. لكنّه ليس الحب. منطق العصر اليوم يعطي الأولويّة للجنس، وهذا ليس إلا هلعاً وقائياً. ليس صحيحاً أن الرجل يبحث عن الجنس فقط، الصحيح أن الأنوثة في كل من الرجل والمرأة هي التي تقع في الحب»، ختم المحلل النفساني.
قبل أن تودع المرأة الشابة الطبيب سألته عن تلك العارية في اللوحة، وعمّا إن كان من حولها سيعدمونها؟ «إنها راهبة، يعدّونها للتكريس بعدما رمت ثيابها المدنيّة».