لا تزال النفايات في الطرقات، ولا تزال الحكومة على تعنّتها في تقديم الطمر أو الحرق كحلّين وحيدين للأزمة، ولا يزال الخبراء البيئيون وما بقي من الحراك المدني يرفضون هذه الحلول، ويقدمون الفرز من المصدر كحل أساسي للخروج من الأزمة، وفيما يتركز الجدل القائم في البلاد حول التقنيات المناسبة للتخلص من النفايات، يبدو أن المشكلة في مكان آخر، وهي تكمن في منظومة اقتصادية، انضوى تحتها معظم دول العالم، تشجّع على زيادة الاستهلاك لزيادة الأرباح، ما يؤدي بالضرورة إلى زيادة النفايات، وبالتالي فإن أي حل يركّز على النتائج ولا يعالج الأسباب، لا يسهم إلا في دفع الأمور نحو الأسوأ.
لذلك يُفترض بالمعالجات أن تبدأ بالأسباب المنتجة للأزمة، أي بتبني سياسات تعتمد على مبدأ التخفيف من إنتاج النفايات أولاً، ثم الفرز من المصدر، ويأخذ الصحافي والخبير البيئي حبيب معلوف على الحراك أنه أهمل المبدأ الأول لصالح المبدأ الثاني، «فالأولوية يجب أن تعطى لتقليص حجم النفايات إلى أدنى حد ممكن، قبل الدعوة إلى الفرز من المصدر، لأن فكرة الفرز بحد ذاتها تشجع المواطن على مزيد من الاستهلاك طالما أنه يلتزم بوضع كل سلعة في المستوعب الذي يناسبها، كما أنها ليست بهذه المثالية، إذ تشير الدراسات الى أن نسبة الفرز لم تتجاوز 30% في أحسن الدول. ولو فرضنا أن لبنان استطاع أن يصل إلى نسبة 100%، فإنه بالتالي بحاجة إلى إنشاء مئات المصانع، وبذلك نذهب إلى إنتاج تلوث من نوع آخر، ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى ضرب قطاع صناعة إعادة التصنيع، بل عدم وضع سياسات تصب كلها في مصلحته».
عند اقتلاع آخر شجرة ونفوق آخر سمكة سيكتشف الإنسان أنه لا يستطيع أن يأكل المال

ويشير معلوف الى أن «مبدأ التخفيف ليس شعبياً لأنه يستلزم فرض ضريبة على كل من يلوث، سواء كان المنتج أو المستهلك»، إلا أن «لهذه الضريبة وظيفة تغيير السلوك، كما أنها ليست طبقية بمعنى أنها لا تقع على عاتق المواطن الفقير». فعلى سبيل المثال، يمكن وضع رسوم معينة على أكياس النايلون التي توزع مجاناً في المحال، ما يخفف من استعمالها، والمواطن الذي لا يريد أن يدفع ثمن الكيس يمكنه إحضاره معه، أو استبداله بحقائب للتسوق، كما أن هذا المبدأ يستلزم التغيير في أنماط التصنيع ليصبح أكثر استدامة، وتشجيع اعتماد تقنيات الإنتاج النظيف، وإيجاد التشريعات الضرورية لمنع استعمال المواد الأولية السامة في كل مراحل الإنتاج، ووضع معايير صارمة على المنتجات المستوردة، ومنع استيراد المواد التي لا يمكن إعادة تصنيعها كبلاستيك الـ PVC، وتطبيق مبدأ الاسترداد على المنتجات التي تحتوي على مواد خطرة، مثل المواد الكيميائية والمواد السامة والإشعاعية والمعادن الثقيلة.
ظهر هذا المبدأ بعدما جربت الدول المتقدمة التقنيات المختلفة للتخلص من النفايات كالطمر والحرق، فبرغم تطور التكنولوجيات لم يحل الطمر دون تسرب المواد السامة إلى المياه الجوفية ودون انبعاث الغازات السامة والروائح الكريهة التي تلوث الهواء ولم يحل الحرق دون ذلك أيضاً، إضافة إلى كلفتها العالية جداً من ناحية الإنشاء والتشغيل والصيانة والموارد البشرية. من هنا، ومع فشل هذه التقنيات، بدأت الدول تدرك أن التحول من نظم اقتصادية خطية قائمة على الاستخراج إلى الإنتاج، إلى التوزيع، ثم الاستهلاك والرمي، إلى نظم اقتصادية دائرية قائمة على تشجيع صناعات التحويل وإعادة التدوير هي الحل حتى لا يضيع شيء، وحتى لا تتحوّل السلع الى نفايات، وحتى لا تنفد الموارد المحدودة أصلاً على هذا الكوكب.
إذاً، ما يحتاج إليه لبنان هو أن لا يعيد إنتاج الإخفاق والفشل الذي وقعت فيه الدول الأخرى، وأن تتخلى حكومته عن إدارة هذا الملف بـ»عقلية الشركة التي تبغي الربح»، وأن تديره بـ»عقلية الدولة التي تريد الخير العام لجميع أفرادها من خلال وضع استراتيجية وطنية متكاملة لمعالجة الأزمة تقوم على مبدأَي التخفيف والفرز من المصدر، محددةً الأهداف والبرامج»، يقول معلوف، «أما الإصرار على تبنّي تقنية معينة، فيعني فتح المجال لإمكانيات التواطؤ مع إحدى الشركات الأجنبية المروجة لهذه التقنية أو تلك، وبذلك نكون قد وقعنا من جديد في التفكير النفعي و»البزنس»، علماً بأن هذا المتواطئ يمكن أن يكون سياسياً أو حتى جمعية بيئية»، يعلّق معلوف.
إنها عقلية «البزنس» نفسها التي أوصلت المجتمعات المدنية المعاصرة إلى حافة الهاوية، فأصبحت أمام خيارين «إما أن ترجع قليلاً إلى الوراء وتختار طريقة أخرى للعيش وللتقدم منسجمة مع القوانين الطبيعية، وإما أن تقع وتنتهي»، أو كما يختصر الزعيم الهندي الأحمر سياتل بجملته الشهيرة «عند اقتلاع آخر شجرة وتسمم آخر نهر ونفوق آخر سمكة، سيكتشف الإنسان أنه لا يستطيع أن يأكل المال».