... وكأنك لم تغادري. تعمّدت بعد مضي وقت على مكوثي ثم وقوفي هامّاً بالتوجه إلى المطبخ أن أتوقف قليلاً، حيث قدّرت من نفسي، أنك هناك، على بعد خطوات، طريحة الفراش في الغرفة المقابلة. لم أكن متردداً في دخول تلك الغرفة. كان عليّ أن أتنحنح فحسب، ثم أعقبها بكلمتين تنذرك بوجود رجل ما يستأذنك الدخول.
«يا الله»، قلتها هامساً.
كنت ستردين بـ«تفضلوا» حال تنتهين من سحب جسمك، بصعوبة، إلى أعلى، وفيما تحاولين الاستناد إلى ظهر السرير الملتصق بالحائط، تتلمسين بحركة سريعة، وبيد واحدة، إن كان قد انسلّ شعر من تحت غطاء رأسك.
لم يجبني أحد.

■ ■ ■


«الله يخليلي ياكن» قالت لي أمي باكية فيما كنت أعزّيها بفقدك. كان يجدر بي أن أذهب ناحية والدتك وأن أحيطها هي، لا والدتي، أختها، بذراعين مفتوحتين حتى آخرهما، لكنني لم أفعل. جبنت. كان أخف وطأة عليّ أن أذرع تلك المسافة، القصيرة جداً، والفاصلة بين الغرفة حيث سجّي جسدك وبين مدخل البيت، بسرعة، ولمرة واحدة، ثم أقف هناك حاشراً نفسي بين جموع المتجمهرين. هكذا أضيع بينهم، ثم اختلس مثلهم، نظرات متقطعة وفضولية لما قد يصل الينا من حركة من هم في صدر البيت.

■ ■ ■


لم أتخيل يوماً أن المسافة بين البيت والمقبرة قريبة كل هذا القرب. ذلك أنني اتذكر جيداً، عندما كان يطلب إليّ أن أحمل غالونين فارغين لأعود بهما مملوئين بالماء من البئر المحاذية للمقبرة، أنها كانت بعيدة والطريق اليها صعبة ومنهكة. الأمر يختلف عندما نكبر. خطواتنا تضحي أسرع وأكبر. جدّك قال لي مرّة كأنما ليذكرني بأني أصبحت شاباً «عليك أن تحث الخطى. إرفع رأسك. هيا أسرع، أسرع، لقد صرت شاباً». هكذا صار خطوي اكبر من المعتاد، كبيراً وسريعاً على الدوام، تماماً كخطوات من ارتفع جثمانك فوق أكتافهم.
قد لا يكون لهؤلاء أجداد فعلوا كما فعل جدنا معي، يقولون لهم إنهم باتوا شباناً وأن عليهم أن يسرعوا في المشي كأنهم يهرولون. أعتقد أنهم كانوا مدفوعين بأسباب أخرى جعلتهم يبدون متعجلين، ومنها تلك الجملة التي تتناقلها ألسن من لا يكتمون مللاً من الانتظار، بأن إكرام الميت دفنه.

■ ■ ■


صوت مختار القرية جميل. لا أعرف لماذا لم يصدف أن سمعته إلا ثلاث مرات، عندما توفيت عمتنا ثم جدنا ثم أنت. يقولون في القرية إنه شخص آدمي، يشارك وزوجته الجميع في أفراحهم وأتراحهم، حتى قبل أن يصبح مختاراً وتصبح امرأته زوجة المختار، بوقت طويل. يتحدثون عن صوته في ليالي السمر عند ضفة النهر الذي جعل من القرية الملاصقة لقريتك الصغيرة، متنفساً.
هل حدث أن سمعت صوته؟ ربما حصل هذا من غير قصد. ذلك أنك لم تكوني ممن يستمعن إلى الاغاني، او يحضرن الحفلات، بعكس اخواتك. تعتقدين أن الاغاني حرام. لكنه كان فيما يتقدّم جنازتك، ملصقاً راحة يده بأذنه كأنه يهمّ بالتجويد، يخرج الأذان بصوته غنائياً.

■ ■ ■


«معها هيداك المرض». لم تشأ أمي قبل سنة من الآن، أي قبل أن يمتص المرض رحيقك، ثم تذوي أمام ناظري أمك، أن تقول لي صراحة، وبالاسم، إنك مصابة بالسرطان. قليلون من ينطقون باسمه جهاراً.
«هيداك المرض» نقولها كأنما لننصب حاجزاً مرتفعاً بيننا وبينه. كأنه وجه قبيح نستجمع كل ما فينا من قوّة، قبل أن نكشحه بحركة من يدنا.
بأي حال، لا يمكن لهذا المرض الا أن يكون قبيحاً. وحش يفرج عن أنياب ناصلة تنهش بلا رحمة. تماماً مثلما أشعر بقبحي الآن، أنا الذي لم أترك لنفسي حتى التفكر بأن أعودك لمرّة قبل أن تغادري.
لا أدري إن كانت الذاكرة تجعل الغائب مقيماً بيننا أكثر منه عندما يكون حياً. أتذكر الكثير من طرائفك وأضحك لها. أتذكر أيضاً انك كنت دائمة الشعور بالبرد. انا ملتحف الآن ومدنّق من البرد. وأنت، ماذا عنك؟ هل تشعرين بالبرد؟