اقترن اسم منطقة صبرا بتلك المجزرة الشهيرة التي وقعت إبّان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لكن هذا الأمر لم يبعد الكثيرين عنها، بل أصبح الحيّ، بفضل سوقه الشهير، من أشهر الشوارع وأكثرها ازدحاماً. تعتريك الدهشة منذ الخطوة الأولى لدخول السوق؛ إذ تتنوّع المشاهد، التي تتّسم في معظمها بمعالم الحرمان والإهمال والفوضى. بضائع مختلفة معروضة فوق «البسطات»، وعلى الأرصفة وفي المحالّ الموزّعة يميناً ويساراً، وفي كلّ زاوية، بحيث لا تكاد تجد مساحة غير مستخدمة. أما روّاد هذا السوق فهم كثر، ومن جنسيات مختلفة. هنا يختلط العربي (فلسطيني، سوري، مصري، سوداني) بالآسيوي (بنغلادشي، سريلانكي)، والأفريقي (إثيوبي)، بالإضافة طبعاً إلى أهل الدار من لبنانيين يقصدون السوق من مناطق عدّة.
في محل للقطنيات والشراشف، يعمل أبو أحمد (45 سنة، سوري) في النهار، وينام في الليل. فهو، كما يقول، بحاجة إلى الاقتصاد في المصاريف حتى لا يدفع إيجارين. الرجل الذي يعمل في هذه المهنة منذ 10 سنوات، بعدما عمل سابقاً «نجار باطون»، غير راضٍ. يصف حركة السوق بـ«الخفيفة، والناس صاروا يجادلون بالسعر»، على الرغم من فارق الأسعار في صبرا وخارجها. ويشكو تأثير الأوضاع في سوريا على حركة البيع وتراجعها كثيراً؛ لأن أغلب البضائع سورية المصدر.
مع التقدّم أكثر في الشارع، تبدأ عربات الخضار بالظهور، هنا بائع يصيح على بضاعته «البطاطا بألف»، فيرد جاره منادياً بصوت أعلى «قرّب يا بو العيلة، الموز بألف». إلى جانبهما تصطف عربات الألبسة المستعملة والأحذية أمام محالّ تعرض البضاعة، بدورها، على الأرصفة. بالقرب منها بسطات تبيع «كل شيء»، من ألعاب، مساحيق، جزادين، سكاكين، منبهات وساعات. تقترب سيدة أربعينية للسؤال عن سعر حقيبة اليد المعروضة، فيرد البائع «30 ألفاً». تقطب المرأة حاجبيها وتردّ «15». يرفض البائع معللاً بأنّ «رأسمالها 25 ألفاً». تمشي بضعة خطوات فيناديها مستسلماً: «بدنا نبيع».
على جانبي الطريق تتلاصق العربات التي تعرض العطور، مع تلك التي تبيع الأفلام الإباحية جهاراً. وللأقراص المدمجة التي تنسخ الأفلام غالباً حصتها أيضاً، حيث يباع القرص بألف ليرة لا غير. نسوة وأطفال في زحمة السوق يحملون عدداً كبيراً من الأكياس، وكأن ما يباع هنا هو «لقطة» لا تتكرّر كل يوم. تقول سعاد إنها تشتري مختلف حاجاتها من الخضر والفاكهة من السوق. أما بسطات الأطعمة كالفلافل والحلويات وعصير الليمون، فتجد حولها الكثير من الزبائن رغم افتقادها لأبسط الشروط الصحية.
هنا تحتل العطورات حيّزاً كبيراً على الأرصفة، لأنها مهنة لا تحتاج إلى رأسمال كبير، كما يقول بائع العطورات، بسام (سوري، 24 سنة). يسهب الشاب في الحديث عن تأثير الأوضاع في سوريا على تجارته، مقدّماً شرحاً اقتصادياً للأمور. يقول إن احتكار كبار التجار وإخفاءهم للسلع هو الذي يرفع الأسعار، وجاء تقنين الكهرباء وأزمة المازوت هناك ليزيد الطين بلة، ما فرض على بعض المصانع تغيير سياساتها الإنتاجية وأودى ببعضها إلى الانهيار؛ «مثلاً، كنا نشتري كيلو العطر بمئة ليرة، صار اليوم بمئتين، ودزينة القناني الفارغة كانت بدولار وستين سنتاً، واليوم صارت ضعف هذا الرقم، ما أدى إلى انخفاض حركة التبادل التجاري عبر الحدود؛ لأن الطلب على السلع قد قلّ».
وعمّا يواجهه من مصاعب في السوق، يشكو ارتفاع الإيجارات «ولهذا السبب نبسط بضاعتنا على العربات».
أبو كمال (30 سنة، لبناني) يمتلك محلاً للبرادي والأقمشة. يتحدث عن تنوع زبائنه الذين يقصدونه من عدة مناطق بسبب رخص الأسعار والثقة في التعامل. يقطع حديثنا دخول سيدة برفقة ابنتها للسؤال عن أسعار البرادي المعروضة وعن ألوان وموديلات محددة «بدنا نجهز البنت» تقول. نسألها: لماذا تشترين من صبرا؟ فترد بأنه سوقها المفضل، وهي تقصده منذ سنوات قبل أن يتوسع بهذا الشكل. «هون بتلاقي كل شي بأرخص الأسعار». يتدخل أبو كمال قائلاً: «يأتينا بعض الزبائن، فيشترون ما يعجبهم، لكن تكمن المشكلة في أنهم يحبون الوجاهة، فلا يصرّحون عن مصدر البضائع، إن سُئلوا، خجلاً، وهكذا نخسر المزيد من الزبائن المحتملين».
محالّ بيع الألبسة ليست أفضل حالاً من باقي السوق؛ فهي أيضاً تشهد إقبالاً خفيفاً، رغم «أنها خفضت الأسعار لتصريف ما عندها من بضاعة بانتظار وصول البضاعة الصيفية المستوردة من سوريا»، كما يقول أكرم (تاجر ألبسة).
جيران هذا الشارع من الفلسطينيين لهم حصة أيضاً من كسب الرزق في هذا السوق، نظراً إلى التداخل الجغرافي بين منطقة صبرا ومخيم شاتيلا. أبو محمد (50 سنة) صاحب محل لبيع الدخان، يتحدث عن ازدحام السوق أيام الآحاد؛ لأنه يوم عطلة، يأتي فيه الزبائن بكثرة، «أبيع الدخان والمعسّل بالمفرق، وأحياناً بالجملة حسب الطلب. عندي شرعي وتهريب؛ لأن البضاعة الرسمية مش ربيحة زي التهريب». أما عن المقيمين في هذا الشارع، فيقول إنهم متنوّعون وأغلبهم يقطنون بشكل جماعي في بيوت صغيرة وببدل إيجار ٍلا يتجاوز مئتي دولار في أفضل الأحوال، وفاتورة الكهرباء والماء تكاد تنعدم، «أساساً الكهربا بتجيش، منجيبها سرقة»، مشيراً بيده إلى أعمدة الكهرباء الموجودة خارج الشارع، فلا أعمدة هنا.
وسط كلّ هذه الزحمة، تبرز «عربة ثقافية» تبيع الكتب القديمة والجديدة. لا حشود حولها كما في باقي السوق. يختصر صاحب العربة هذا الواقع بقوله إن «الثقافة ما بتطعمي خبز».



إيجار الأرض

تتدخل بلدية الغبيري في سوق صبرا، بين وقت وآخر، بنحو ضعيف لا بالمستوى المرجوّ. فالطريق مثلاً عرفت الزفت في أيلول من عام 2010 بعد طول غياب. يصعب أن تمشي هنا من دون الانتباه جيداً إلى خطواتك، فضلاً عن ضرورة الحذر من بعض المحتالين واللصوص الذين قد يستغلون ويستضعفون من يعجبهم، ومن لا يعجبهم. عن هؤلاء يتحدّث بعض من التقيناهم ممن خبِر السوق وعرفه: ليس بإمكان أي شخص أن يدخل السوق ويعرض بضاعته، بل عليه أن يدفع «إيجار» الأرض التي يستثمرها للنافذين في هذا السوق؛ فمالكو العربات والبسطات يتحكمون بأسعار الإيجارات.