في كل مرة تُسأل فيها ليندا مطر عن سنوات عمرها، تمسح منها ثمانية وعشرون عاماً. عندما تجيب مطر بهذه الإجابة الناقصة سنواتٍ طويلة، إنما تعوّل على من «سمع باسمي». وهي تعرف أنهم كثيرون. أما لمن لم يسمعوا بهذا الاسم، فقد يكون كافياً لهم استعادة العبارة الأولى التي قالتها مطر في كلمتها في حفل تكريمها قبل عامين: «اليوم، أصبح عمري 57 عاماً... أنا التي ولدت لحظة انتسابي إلى لجنة حقوق المرأة اللبنانية».
غداً، ستعيد مطر هذه العبارة في مقدمة كتابها «محطات من سيرة حياتي» الذي ستوقعه في «الذكرى السادسة والستين لتأسيس لجنة حقوق المرأة اللبنانية». ستكتب «اليوم، صار عمري 59 عاماً... هي التي لا تستطيع فصل حياتها عن اللجنة».
ليست مطر وحدها من تستصعب هذا الفصل، فكثيرون ممن يعرفونها سيصل بهم الأمر إلى حد اختصار اللجنة بمطر. وعندما تسألهم عن اللجنة، يبادرون بالقول «ليندا مطر». تتضايق المرأة، التي رابطت طويلاً ولا تزال على الجبهة النسائية، من جواب كهذا. وتنزعج أكثر من «تصور البعض أنني دائماً رئيسة اللجنة». وهذا مجحف في «حق رئيسات أخريات».
مع ذلك، قد لا يغير انزعاجها شيئاً في وعي الآخرين. وعندما نتحدث عن اللجنة سنهرع إلى ليندا مطر بلا قصد. فما الذي تقوله عن مسيرة حقوق المرأة التي رافقتها ستين عاماً؟
في عام 1925، ولدت ليندا مطر. لا تتذكر من تلك الطفولة إلا الأم شهاب التي رافقتها في مدرسة الناصرة. تمر ثمانية وعشرون عاماً، قبل أن تبدأ مطر بحياتها الفعلية كامرأة. كان ذلك في عام 1951، عندما «ترسخت في رأسي فكرة الإجحاف التي تتعرض لها المرأة، حينما وقفت متفرجة على الانتخابات النيابية في حينها، التي كانت تستثني المرأة من التصويت والترشّح». وهي الفكرة التي ولدت في رأسها في عمر الثانية عشرة، اذ «دفعتني الحاجة للعمل في معمل للجوارب ومن ثم معمل للحرير، ورأيت كيف تعامل المرأة انطلاقاً من دوام العمل إلى الراتب إلى النظرة الدونية لها».
في اليوم نفسه من الانتخابات النيابية، التقت مطر صدفة بفتاتين تحملان عريضة تنص على «حق المرأة بأن تُنتخب وتنتخب». يومها، وقعت العريضة وتعرفت على اللجنة من خلالهما. وبعد فترة وجيزة، انتسبت إليها، ليتحقق أول انتصار للمرأة، شاركت فيه مطر، في عام 1953 «عندما أقر حق المرأة بالترشح والتصويت». صار ذلك العام مفصلاً. حصلت المرأة على «أول حقوقها»، تقول. لكنه، بقي حقاً صغيراً تحقق، مقارنة بحقوق أساسية وكثيرة تتطلب جهداً مضنياً. حقوق لم تسعفها السنوات الستون كي تنضج، ومنها وربما الأساس «مثلاً إقرار قانون انتخابي يأخذ بعين الاعتبار الكوتا النسائية وقانوناً مدنياً للأحوال الشخصية وحق الأم في منح جنسيتها لأطفالها وتحقيق المساواة الكاملة والمواطنة التامة، مش إنو المرأة تكون مواطنة ولكن أن تكون ابنة الوطن، تماماً كما الرجل»... والقائمة تطول. قد تكون هذه عينة، لكنها تبقى أقصى الأمنيات. يبقى السؤال: كم سنة تحتاج هذه الأمنيات كي تتحقق؟ تقول مطر «لو سئلت هذا السؤال في الخمسينات لكان الجواب أكثر من الستين، أما الآن، فقد صار بإمكاني الاعتماد على وعي المرأة في هذا المجال وعلمها ومشاركتها بالعمل ونشاطاتها في الجمعيات التي تعنى بحقوقها، فالمرأة اليوم صار لها رأياً وصارت لديها الإمكانية أن تقف وتتكلم ولهذا كلما تضافرت الجهود صار الوصول إلى الحقوق أسهل». مع ذلك، ليست الأمور بهذه البساطة، وإن كانت هذه «المرأة الواعية» موجودة، إلا أن ثمة عوائق كثيرة، لعل أبسطها بالنسبة إلى مطر التي عايشت مراحل كثيرة من النضال أن «الجمعيات التي ولدت للنضال من أجل هذه الحقوق تغني كل واحدة على ليلاها، إذ لم تتوحد الجهود بعد، فصحيح أنه صارت هناك تحالفات، لكننا لم نستفد على نحو كافٍ من النقاط المشتركة التي يمكن أن نعمل على أساسها». هذا صعب. أما ما هو أصعب، فهو تشرذم تلك الجهود. وهنا، تسأل مطر السؤال الذي نسأله كلنا: ما الذي ستغيره 100 امرأة نزلن إلى الشارع؟ تقول على سبيل المثال «بنعمل دعوة بتنزل 100 امرأة من شان كل شيء، ان كان المطلب معيشيا أو حقوقيا او اجتماعيا او سياسيا، فإذا ما كنت نازلة بقوة ليضج فيك الإعلام، ما رح تقدري تغيري شي».
هذا صعب، لكن ما هو أصعب من ذلك أن تترك «كل امرأة للتخطيط لحقوقها، وألا يعد الحق حقها لا حقنا». مع ذلك، ثمة أمل بالوصول إلى مكان ما. هو الأمل نفسه الذي «خرجنا به من الخمسينيات إلى هنا، ففي السابق لم تكن في جعبة المرأة أية حقوق، أما الآن، فيمكن القول إننا فعلنا شيئاً وإن كان ميزان النضالات لا يزال متفوقاً على ميزان ما تحقق». وما يمكن الحديث عنه هو وعي المرأة «فصحيح أن العقلية الذكورية لا تزال موجودة، لكن ما يعول عليه هو أن المرأة وعت لوجود تلك العقلية، ولم يعد ينقصها إلا الوعي للنضال الثقافي المبني على المصلحة العامة التي هي مصلحة المرأة والرجل كمواطنين متساويين». وهو وعي سياسي في الدرجة الأولى «لكوننا نعيش نتائج السياسة». وهنا، المأخذ على بعض الجمعيات التي تتعاطى السياسة وتطالب في الوقت نفسه بتعزيز وجود المرأة في البرلمان. فما الذي تعنيه تلك المعادلة؟ وما الذي ستفعله المرأة عندما تدخل البرلمان مثلاً؟
وربما، هذا هو الاختلاف بين لجنة حقوق المرأة اللبنانية وغيرها، وهي التي بدأت عملها منذ نشأتها عام 1947 لتكون المكان الذي ينص على «حق المرأة في أن تتعاطى القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية». أما الاختلاف الآخر، «فهو في توجه المرأة للعمل الوظيفي في الجمعيات، على عكس العمل التطوعي في اللجنة، وهنا الفارق بين التطوع والوظيفة، التي نلاحق فيها عقارب الساعة بانتظار انتهاء الدوام، وهذا يؤثر أيضاً في تحصيل الحقوق».
ليندا مطر التي عايشت اللجنة 60 عاماً تعرف أن المرأة لم تصل إلى الكمال. ينقصها الكثير. وثمة ما يضاعف هذا النقص: النظام الطائفي. وعندما «تعرف المرأة من تنتخب ستصل إلى حقوقها، ولو نظرنا اليوم إلى النواب المدافعين عن حقوق المرأة فسنجد بأن أصابع يدٍ واحدة قادرة على إحصائهم».
ولهذا تسأل ليندا مطر نفسها كل يوم السؤال نفسه: ما الذي حقتته في ستين عاماً؟ وهو السؤال نفسه الذي يسألها إياه كثيرون، والذي تجيب عنه في كتابها بالقول «لا تسألوني ماذا حققت وماذا حققت اللجنة، اسألوا من بيدهم القوانين. نحن نطالب ولكن الأقدر على التغيير هم من يملكون القرار».



مدام بانجاريان

لم تحمل ليندا مطر كنية زوجها. لم يلقبها أحد بـ «مدام بانجاريان». تفرح، عندما تلمس استغراب أحدهم من بقائها على اسمها الأول. تحزن عندما يطالبها البعض بالتخلي عنه. تحزن مثلاً عندما يطلب منها ولداها التقاعد. وربما، «عندما أفعل ذلك سأموت».