قرار الأونروا بتقليص خدماتها يعتبر كارثة حقيقية في ظل أوضاع المخيمات الفلسطينية، ولا سيما نهر البارد. ولكن المثل يقول «إذا عُرف السبب بطل العجب».
القرار سياسي بامتياز، إذ إن ذريعة النقص بالأموال واهية، فالأونروا تموّل من تبرعات غير إلزامية، ما يعني أن بإمكان أي دولة أن تتوقّف عن الدفع ساعة تشاء. فكيف إذا كانت الحصة الأكبر من التمويل تأتي من دول على علاقة وطيدة بإسرائيل وتربطها بها مصالح استراتيجية.
تتبع مسار التمويل وتذبذباته بالمقارنة مع التطورات السياسية يوضح أموراً كثيرة. فالوكالة بدأت عام 1950 بتقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين. يومها كانت تقوم برعايتهم وتأمين الخدمات الاستشفائية والتعليمية والغذائية، وكان لها «مطاعم» منتشرة في المخيمات، وكانت «وجبة الفطور» إلزامية لطلاب المدارس، بالإضافة الى توفير آلاف فرص العمل.
رويداً رويداً، بدأ التقليص الممنهج للخدمات. فأُلغيت المطاعم، وبات لزاماً على الأهل دفع بدل القرطاسية وتصوير «أسئلة الامتحانات». الى أن جاء شهر أيلول من عام 1993 إثر توقيع اتفاقيات أوسلو، فخفضت الأونروا خدماتها تحديداً في لبنان، وصار لزاماً على اللاجئ أن يدفع نصف تكاليف علاجه في المستشفيات، إضافة الى تقليص كميات الأدوية من عياداتها. كما قطعت الإمدادات الإغاثية عن معظم اللاجئين، وابتكرت تسمية جديدة أطلقت عليها اسم «حالات العسر الشديد» بقيت تستفيد من «الإعاشات»، وهي فئة قليلة من نسيج المجتمع الفلسطيني مؤلّفة من كبار السن ومن ذوي الحالات الخاصة والإعاقات.
بقي الأمر هكذا حتى أيار عام 2007، عندما تم تدمير مخيم نهر البارد على أثر المعارك الضارية بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الإسلام. فأعلنت الأونروا حالة الطوارئ، وبدأت بتقديم مساعدات إنسانية لجميع سكان المخيم المنكوب، كما عملت على تغطية نفقات العلاج في المستشفيات بالكامل وسددت كلفة الأدوية والصور الشعاعية. والتزمت «إعادة إعمار المخيم» بالكامل، وعمدت الى بناء خمسة مجمعات سكنية، أطلق عليها اسم «السكن المؤقت»، لاستيعاب بعض العائلات النازحة، فيما منحت البقية بدل إيجارات. ورغم مرور أكثر من ست سنوات، إلا أن معظم بيوت المخيم لم يُعد إعمارها نتيجة المماطلة والتسويف، حيناً من قبل الدولة اللبنانية، وحيناً آخر من الدول المانحة، وكذلك بسبب البطء الشديد بالإعمار الذي سادته الرشى والمحسوبيات والغش في النوعية.
في تطور أخير، أعلنت الأونروا أخيراً على لسان مديرتها العامة، آن ديسمور، أنها بصدد تخفيض خدماتها لنازحي مخيم البارد، رغم أن حالة النزوح لا تزال قائمة! وهذا يعني توقيف دفع بدلات الإيجارات أو توجيهها لفئة معينة ضمن مواصفات محدّدة وفقاً لبيانها الأخير، ودفع نصف نفقات العلاج في المستشفيات وإيقاف أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية.
لا يمكن فصل هذا القرار الجائر عمّا يدور في المنطقة، فمخيم نهر البارد لم يعد أولوية للدول المانحة، إذ توجهت أموال الإغاثة الى النازحين السوريين. وهناك ورشة إعمار كبيرة جداً ستحصل عند انتهاء المعارك في سوريا، وهذا يعني بدوره أن هناك خطراً حقيقياً بعدم استكمال إعمار المخيم، ولا سيما أن بيان ديسمور يقول إن أموال إعادة الإعمار تكفي لعام 2014 فقط. وهذا بدوره يضع أبناء المخيم في «دائرة المجهول». والحقيقة أن استكمال الإعمار قضية هامّة ومحورية، وخاصة أن معظم عائلات المخيمات لا تزال نازحة وتنتظر بفارغ الصبر العودة الى بيوتها. ولكن يبدو أن مقولة «المخيم دُمّر لا ليعاد إعماره» صحيحة.
«الأونروا» هي أحد أهم الشواهد على نكبة الفلسطينيين وتهجيرهم من وطنهم عام 1948، وهناك ضغوط صهيونية كبيرة لإلغائها بالكامل وهذا له ارتباط وثيق بمفاوضات الحل النهائي وإيجاد حل لقضية اللاجئين. إذ إنه بمجرد الإعلان عن قيام «دولة فلسطين» واعتراف أكثر من مئة وثلاثين دولة بها سقطت صفة اللجوء عن اللاجئين الذين أصبحوا بالعرف الدولي «رعايا دولة فلسطين» في «البلدان المضيفة»، وهذا بدوره يعني أن التخفيض الممنهج للخدمات مقدمة للمشروع الأكبر.
بيان آن ديسمور فيه من الصراحة والوضوح ما يكفي لالتقاط الكثير من الإشارات، ومنها أن أمر التخفيضات جرى بالتوافق والاتفاق مع بعض الجهات الفلسطينية! ما يعني أن «البعض الفلسطيني» هو جزء أساس من كل ما يجري ويُحاك. وبدورها تسعى إسرائيل من خلال المحافل الدولية الى إعادة تعريف «من هو اللاجئ»؟ وهي تهدف من وراء إسقاط صفة اللجوء عن اللاجئين الى شطب حق عودتهم الى وطنهم وحرمانهم أيضاً من أي تعويض.
المؤامرة كبيرة وهي لا تتوقّف عند حدود تخفيض الخدمات، ولا تمسّ أبناء مخيم نهر البارد دون غيرهم، وإن بدأت أولى حلقاتها بهم وعندهم.