عاد الطفل أمين عاهد رجبية إلى منزله في عكّار، أمس. كُتبت له هذه النهاية السعيدة صدفة، إذ إنّ عودة الرضيع الذي بلغ شهراً وثلاثة أيام اليوم إلى منزله لم تكن أمراً مؤكداً. فمشكلته أنّه مرض وليس مشمولاً بأي نظام للضمان الصحّي. التهاب في أمعائه جعل حرارته ترتفع إلى 40 درجة ونصف. وفي بلد كلبنان لا نحتاج إلى الكثير من الخيال لنعرف ماذا يحلّ برضيع مريض، أو أيّ إنسان آخر يحتاج إلى دخول مستشفى على نحو عاجل إذا ما كان من ذوي الدخل المحدود وبلا ضمان.
والد أمين، عاهد رجبية، حمل ابنه المريض، الذي كان يبلغ من العمر الأسبوع الماضي 25 يوماً فقط، وقصد عيادة الطبيب مسرعاً بعدما ارتفعت حرارة ابنه. الطبيب طلب منه أخذ الرضيع إلى المستشفى فوراً ليتلقّى العلاج اللازم. لكن دخول المستشفى ليس بهذه السهولة طبعاً، في دولة المحاصصة الطائفية.
أول محطة للوالد، الذي يقطن في عكّار، كانت مستشفى رحّال. أُدخل الطفل الى قسم الطوارئ في المستشفى، لكن الإدارة أخبرت الوالد بعد مرور بعض الوقت أنّها أجرت الاتصالات اللازمة لنقل الرضيع إلى مستشفى السلام في القبيّات، بما أنّ الطفل يحتاج إلى أن يوضع في حاضنة، بسبب افتقار مستشفى رحال إليها. نقل الوالد ابنه إلى مستشفى السلام في ظرف دقائق معدودة، هناك أدخلوه الى قسم الطوارئ، لكن لم يكن لدى الوالد «المؤهلات الماليّة» التي تخوّله نقل ابنه من الطوارئ للمعالجة داخل المستشفى. يقول الوالد: «أخبروني بسرعة أنّهم لا يعالجون أيّ مريض على حساب وزارة الصحّة، وبالتالي عليّ نقل ابني إلى مستشفى آخر». هنا كواحد من مليوني لبناني بلا ضمان صحي، بدأ الوالد يقوم باتصالاته ليصل إلى أحد نوّاب المنطقة ويطلب منه معالجة رضيعه، الذي قد يفارق الحياة بين لحظة وأخرى. استطاع الوالد التحدّث إلى «بعض النوّاب»، وهو يرفض الإعلان عن هوياتهم، لكنهم خذلوه جميعاً وأخبروه أنّ وزير الصحّة، علي حسن خليل، وحده يستطيع إدخال ابنه الى المستشفى للمعالجة! لا يعرف الوالد من يصله بوزير الصحّة، فطلب حينها من المستشفى أن يعالج ابنه على حسابه الخاص.
طلب المستشفى مليونين ونصف مليون ليرة لمعالجة الرضيع. لم يكن الوالد يملك في حينها سوى 500 ألف ليرة. اقترح على المستشفى معالجة الطفل وأخذه هو «رهينة» أو سيارته حتى الصباح، كي يستطيع تأمين المبلغ المتبقي، لكن المستشفى بقي يرفض معالجة الطفل قبل تلقيه المبلغ كاملاً. هنا، لم يعد الطفل يصدر أصواتاً، وبدأ وضعه يتدهور بين اللحظة والأخرى. فتذكّر الوالد صديقه الإعلامي، اتصل به وطلب منه المساعدة. فنشر الصديق الخبر على الوكالة الوطنية للإعلام، وما هي إلا لحظات، يقول عاهد حتى اتّصل به رئيس الجمهورية ميشال سليمان شخصياً ليعده بأنّه سيساعد ابنه. تدخّل الرئيس «البطل» شخصياً لينقذ الرضيع المريض. هل توقّع الرئيس أن تتصدّر مبادرته هذه صفحات الجرائد الأولى؟ أو أن يحسّن صورته لدى الناس الذين يعتبرونه بعيداً كلّ البعد عنهم وعن همومهم؟ السؤال الأساسي، يا فخامة الرئيس، هو لماذا يحتاج إدخال رضيع إلى المستشفى، في دولتنا الكريمة، إلى تدخّل أرفع منصب في الدولة؟! أليست هذه كارثة موصوفة؟ لكن القصة لم تنته هنا.
كان على مكتب الرئيس أن يتواصل مع مستشارة وزير الصحة رانيا القيّم حتى يؤمّنوا نقل الطفل من عكّار إلى مستشفى بيروت الحكومي. هكذا استطاع أمين رجبية تلقي العلاج اللازم بعد أربع ساعات من بدء والده البحث عن مستشفى يستقبله.
كان يمكن أن يفارق الحياة خلال هذا الوقت، ويتغيّر الخبر كلّه ليصبح أمين طفلاً آخر يموت على أبواب المستشفيات في لبنان. مستشارة وزير الصحّة، رانيا القيّم، تقول إنّهم تابعوا وضع أمين منذ نقله إلى مستشفى بيروت الحكومي حتى لحظة خروجه منه معافى أمس. لكن كيف تبرّر وزارة الصحّة تصرّف مستشفى السلام؟ تصرّ القيّم على أنّ الخطأ لم يكن مسؤولية المستشفى، إذ إنّ «استقبال مستشفى لرضيع هو مسؤولية كبيرة، وطبيب الرضيع هو عادة من يرسله إلى المستشفى الذي يعمل فيه. لكن الوالد كان يتنقل من مستشفى إلى آخر من دون أي تعليمات من طبيب الطفل»! وعندما زوّدناها بالمعلومات التي ذكرها الوالد حول امتناع المستشفى عن معالجة الطفل قبل دفع مليونين ونصف مليون ليرة، أجابت أنّها لا تعرف شيئاً عن الموضوع وما علينا سوى أن نتّصل بالمستشفى ونستقصي حقيقة ما جرى! نحن قمنا بعملنا على أكمل وجه واتصلنا بالمستشفى، لكن للأسف كانت الموظّفة المخوّلة بإعطاءنا الإجابات قد أنهت دوامها.
لكن نقترح على وزارة الصحة أن تقوم هي أيضاً بدورها وتستقصي الأسباب الحقيقية خلف عدم معالجة الطفل أمين رجبية، أو أن تفكّ أسر مشروع التغطية الصحية الشاملة فوراً.