تعاني السيدة الأربعينية أوجاعاً في مناطق مختلفة من جسمها ونفسيتها غير مرتاحة. لم نلتقها في صالة انتظار طبيب، ولا في صيدلية... بل عند «الشيخة» التي ستعالجها مع مراعاة وضعها المادي، لذا صرفت لها ما بقي من بخور كان قد حمله إليها زبون سابق. هذه المراعاة لم تحظ بها سارة التي قصدت أحد العرّافين لحلّ مشكلة المنامات الغريبة التي تطاردها، كأن يأتيها شخص مخيف ويركل بطنها الحامل بجنين طال انتظاره. قصدت هذه السيدة أحدهم، فطلب منها في البداية ثمن البخور. وعندما كرّرت زيارتها، لم يتردّد في طلب مبلغ ألفي دولار «مصاريف». أما سعاد (اسم مستعار)، فقد أنفقت عشرين ألف دولار لدى هذه الفئة من العرّافين، لتعرف شيئاً عن مصير ابنها المجهول مكان الإقامة منذ سنوات. تقول: «حاولت كثيراً بشتى الطرق بلا جدوى، فقصدت روحانياً متخصصاً بجلب الحبيب وطلب مبلغ يفوق 20 ألف دولار؛ لأنه رصد لها ابنها المفقود في أوروبا! لكن قبل أن يعود الابن من غربته، وصل عناصر الدرك إلى العرّاف وقبضوا عليه بتهمة النصب.
هذه الحالات ليست إلا عيّنة بسيطة مما يتعرّض له اللاجئون إلى المشعوذين والعرّافين بحثاً عن حلّ لمشكلة، لم يجدوه بالطرق العادية. الكلام الذي يقال في هذا الإطار يكاد يكون مكرّراً عن اليأس الذي يدفع أحدهم إلى مشعوذ. لذا، حاولنا سؤال «الروحانيين» أنفسهم عن مهنتهم، كيف يمارسونها ولِمَ؟
البحث عنهم ليس صعباً. نظرة سريعة على بعض المجلات والجرائد الإعلانية المبوّبة كافية للحصول على أرقام هاتف عشرات «العلماء الروحانيين والشيوخ والشيخات، المنجمين أو العرّافين»... لكن الاتصال بهم بصفة إعلامية لا يفتح أبوابهم السحرية بسهولة. من «الشيخة» التي تشارك «شيخة» أخرى رقم الهاتف، إلى المنجّم الذي يؤمّن «أقوى الأعمال الروحية من المغرب ومن السودان»، ومحاولات أخرى تبوء بالفشل إلى أن يقبل أحدهم بعد أول محاولة.
عند باب المكتب المغلق بإحكام في منطقة البربير، تستقبلنا موظفة وترشدنا إلى غرفة تعبق بدخان السجائر. في الصالة صورة لـ«الشيخ الروحاني» بسكسوكته الكثة، وكذلك بعض «التعويذات»، تخرقها قصيدة مدح وثناء من «بنت الرياض» زميلة العمل. خلال الانتظار، يرتفع الصراخ من داخل الغرفة ليتبين بعدها أن الشيخ كان يحل مشكلة إحدى الزبونات، ويكشف الصوت الآتي من الغرفة أنها واقعة في مأزق زوجي كبير.
بعدما تخرج الزبونة، يرحّب بنا الرجل، معلناً بفخر أنه يعمل في هذا المجال منذ كان في السابعة عشرة من عمره. يؤكد أنه لا يشبه الآخرين بما أن عمله يقتصر على العلاج «بالقرآن الكريم». يروي قصة النبي موسى وإبطاله للسحر «المحرّم». ما يقوم به حصراً «تلاوة بعض الآيات القرآنية وكتابة بعض التعويذات مع تحديد فترة معينة لاستعمالها حسب الحاجة». أما بالنسبة إلى أجرة الشيخ، فهو رحيم بالفقراء ولا يتقاضى منهم مبالغ كبيرة، ولكن «على الميسورين أن يدفعوا إكرامية فوق الأجرة». بناءً عليه، صار متاحاً لـ«شيخنا» أن ينتقد زملاءه في المهنة «بعضهم مخادعون ويتقاضون مبالغ كبيرة». والدليل «قصدتني سيدة وراحت تشتكي على أحد الأشخاص المعروفين بالفلك والتنجيم، وكان قد أعطاها أوراقاً مكتوباً عليها بماء الزعفران على شكل تعويذة، وعندما فتحتها لم تكن الكتابات ذات معنى!».
إذاً، هذا الشيخ لا يعمل إلا بما يرضي الله، ويؤدي واجباته الدينية، ولديه أيضاً علاج جديد لمرضى السرطان عبر لبن أحد الحيوانات المذكورة في القرآن، وهو في طور التجربة! كلّ هذه المعلومات التي يقولها عن نفسه تنتفي مع رؤية كتاب عن السحر والشعوذة في غرفته. ما هذا؟ ألست تحارب السحر كما تدعي؟ يرتبك فعلاً، قبل أن يقول: «صحيح، لكن انظر إلى ما هو مكتوب في أول الصفحة: بسم الله الرحمن الرحيم!».
للنساء نصيب أيضاً في «المشيخة والعلم الروحاني». في بيتها على طريق المطار تستقبل الشيخة زوارها في غرفة تعبق برائحة البخور. ترحب بالإعلام وتباشر على الفور بالحديث عن مقابلاتها وإطلالاتها في لبنان والدول العربية. تعرّف نفسها بأنها من أسرة «سيدنا أحمد الرفاعي المصري» الذي كان خبيراً وورثت عنه هذه المهنة. طريقتها «فرعونية» في العلاج كما تقول، وهي تقوم على «علم» الصدف والتراب. كيف؟ لا إجابة، الصدف موجود والتراب كذلك، والشيخة التي تحكي بالعلم وصلت إلى «الصف السابع». أما زميلتها «ذاك القلب الكبير» ـ كما يعرّف عنها الإعلان ـ فلديها توقعاتها الخاصة. تدلي بآرائها السياسية والفقهية. وبين السيجارة والأخرى، تشرح عن دور القرآن في طرق العلاج التي تلجأ إليها. لا تعرفة محدّدة تتقاضاها، «كلّ زبون وفق حالته ووضعه» لماذا؟ لشراء البخور... وأشياء أخرى. إذا اضطر الأمر، تصطحبه في جولة إلى بعض المقامات الدينية من إسلامية ومسيحية «لتهيئته نفسياً».
والطريف روايتها عن عراقي قصدها للعلاج وشفي على يديها. «هل ترك مقامات الأنبياء والأولياء كلها في بلاده وقصدك أنتِ؟». يستفزّها السؤال، لكنها تردّ بثقة: «الله اختارني لأساعده». وبما أن الله يختار، لم يحظ زملاؤها بهذا الشرف، كما تقول هي. «أكثرهم يسعون وراء المال والجنس»، ولا تتردّد في تسمية أحدهم الذي «أوقفته القوى الأمنية قبل فترة لمحاولته الاعتداء جنسياً على زبوناته واستغلالهن».
بهذه السذاجة يتكلّم هؤلاء على أنفسهم، وبكلّ صراحة ينتقدون «زملاءهم» موجّهين إليهم الاتهامات ذاتها التي يكرّرها المواطنون العاديون الذين لا يصدّقون هذ الشعوذات. لكن إذا كان أمر هؤلاء مكشوفاً إلى هذا الحد، فلم يوجد دائماً من يصدّقهم؟ وكيف السبيل إلى توعيتهم؟
قد تكون الإجابة لدى رجال الدين، بما أن من يصدّقون هذه الشعوذات يغلّبون الأمور الروحانية عادة. وفي هذا الإطار يقول الأب عصام إبراهيم، مدير مدرسة الحكمة في اتصال مع «الأخبار»، إن ما يقوم به هؤلاء «دجلٌ وكذبٌ على الناس، وما يمارسونه لا علاقة له بالدين، لا من قريب ولا من بعيد، ومن يلجأ إلى هذه الأمور ليس لديه إيمان بربه، ومن يعمل بها، فغايته جمع المال أو الشهرة. أما المسيحي الحقيقي، فلا يقبل بهذه الأمور؛ لأنه حين يصلي يحضر نعمة الله ومحبته ويرفض ما دونها، ويسوع حذرنا من الدجالين والأنبياء الكذبة؛ فمن يأتك بنبوءة، فهو ضد الإيمان».
أما موقف الإسلام ونظرته إلى هذه الأمور، فهو «واضح ويتطابق مع المسيحية من رفضها وتحريم العمل بها»، كما يشرح الشيخ شفيق جرادي مدير معهد المعارف الحكمية؛ «فحديث الإمام علي واضح بهذا الشأن، حيث يقول: أيها الناس إياكم وتعلم النجوم، إلا ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنه يدعو إلى الكهانة، المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله وهونه». ويضيف «أن الجنّ موجود في عالمنا، ولكنه لا يؤثر أو يتأثر فينا، ولا سلطة له على الإنسان إلا بالقدر الذي تحدث عنه القرآن الكريم في سورة الناس، وهو الوسوسة، حيث يلقي للإنسان جملة من الأمور التي تضله وتشتت تفكيره». أما العاملون بهذا المجال، فهم بحسب جرادي كذابون ومدّعون، فإن كان كلامهم وادعاءاتهم صحيحة، فلماذا لا يغنون أنفسهم، فيحققوا ما يريدون من مكاسب وأموال عبر الجن الذين يدعون تواصلهم معهم؟ لكي يسيطر الإنسان على الجن ينبغي أن يكون بمستويات روحية عالية جداً، وهذا ما يحصل فقط للأنبياء». وعن سبب لجوء بعض الناس نحو هؤلاء، يرد قائلاً «إن الإنسان بطبيعته مرتبطٌ بالغيب، ويحاول أن يستقرئ المستقبل، فالجاهل والضعيف النفس والإيمان هو الذي يصدّق قولهم حين يأتون ليستغلوا هذا الجانب من أجل تحقيق المال أو الشهرة، وكذلك من أجل الجنس، وأغلبهم يعانون أمراضاً نفسية ومشاكل اجتماعية تدفعهم لهذا العمل. فمنهم من لا يحبذ اللجوء إلى رجال الدين، بل يفضل الطرق السهلة والملتوية، ومنهم كذلك من لا يجد حلاً لمشكلته بعد أن يكون قد استنفد عدة خيارات، فيقصدهم على طريقة آخر الدواء الكيّ، فتأثير البيئة والحالات الصعبة التي تواجه الإنسان يدفعه إلى البحث عن أي بديل ويأسه قد يدفعه إلى أن يتعلق بـ«قشة» قد يعتبرها سبيل خلاصه، وعندها لا اعتبار لديه لأي مانع ديني أو أخلاقي».
الجدير بالذكر أن المشترع اللبناني نص في المادة 768 من قانون العقوبات على المعاقبة بالتوقيف التكديري (أي الحبس لمدة تراوح بين يوم وعشرة أيام فقط) وبالغرامة من عشرة آلاف ليرة، إلى 20 ألف ليرة، لمن يتعاطى بقصد الربح مناجاة الأرواح، والتنويم المغناطيسي، والتنجيم وقراءة الكف وقراءة ورق اللعب. وتصادر الألبسة والعدد المستعملة. ويعاقب المكرر بالحبس حتى ستة أشهر، وبالغرامة حتى مئتي ألف ليرة ويمكن إبعاده إذا كان أجنبياً.