عندما أحال وزير الاتصالات بطرس حرب والمدير العام للاستثمار والصيانة في الوزارة عبد المنعم يوسف ملف تمديد شبكة الألياف الضوئية على التفتيش المركزي، لم يكن أيّ منهما يتوقع أن تدينهما نتائج التفتيش أيضاً.
فالوزير قام بهذه الإحالة «سياسياً» لـ«التنقير» على الوزراء العونيين الذين كانوا يديرون دفّة الوزارة قبله، لكنه اصطدم بقدرة عبد المنعم يوسف على التعطيل، ما منعه من «قطف» ثمار هذا المشروع حتى الآن، على الرغم من أنه «غنم» من يوسف «منفعة» تشغيل الشبكة، قبل تسلّمها، في بلدات تقع ضمن منطقته الانتخابية مثل تنورين. أما يوسف، فقد حرص على تعطيل هذه الشبكة وإبقائها «مدفونة» تحت الأرض، مثلها مثل أي جثة هامدة، وعمد، بحسب مصادر معنية، إلى إعادة التعاقد على تركيب أجهزة رديفة للأجهزة التي ركّبتها شركة «إريكسون» في السنترالات، وتعهّدت بإدارتها وصيانتها مجاناً، وبالتالي قدّرت قيمة هدر المال العام بأكثر من 5 ملايين دولار، من دون أي نيات في التشغيل قريباً.
لم تبدأ شراسة يوسف ضد هذا المشروع مع خروج وزراء تكتل التغيير والإصلاح من وزارة الاتصالات ودخول وزير 14 آذار بطرس حرب إليها، بل هو وقف ضدّه منذ اللحظات الأولى لولادته. فقد جاءت ولادة هذا المشروع على أيام الوزير السابق شربل نحاس، عندما أيقن أهمية تمديد شبكة سلكية من الألياف الضوئية ذات القدرة الاستيعابية الهائلة لنقل المعلومات وتوفير ما يُعرف بخدمات الحزمة العريضة. انعكاسات الشبكة على الاقتصاد والمجتمع هائلة، فهي تؤمن خدمات الانترنت عن طريق 4000 كيلومتر من كابلات الألياف الضوئية لمشتركي الهاتف الثابت والخلوي أيضاً، وقدرة الشبكة كبيرة إلى درجة أنها ستضاعف مئات المرّات قدرة الشبكة القائمة حاليا.
الأهم من ذلك كلّه أن تصميم هذه الشبكة يمنع التنصّت الاسرائيلي عليها بعدما تبيّن أنه أمر حاصل على الشبكة القائمة، ويتيح وجود خطوط اتصال بديلة لأي نقطة (منطقة) في حال حصول أي عطل طارئ لأي سبب من الأسباب، ولذا هي شبكة عنكبوتية متصل بعضها ببعض في أكثر من نقطة اتصال. المرحلة الأولى من المشروع تقضي بتمديد الكابلات وتركيب مراكز التحكّم، وقد اختصرت المراحل الباقية بمرحلة توصيل الألياف الضوئية إلى نحو 3500 نقطة مثل نقاط إرسال الخلوي والمؤسسات الكبيرة الاعلامية والمصرفية والتربوية والتجارية والاستشفائية وإدارات الدولة.
رفض يوسف تسلّم الشبكة بذريعة أنها «شبكة حزب الله»

كل هذه المنافع لم تكن ضمن اهتمام يوسف، بل كان التزام العقد هو محور اهتمامه الأول وتشغيل الشبكة هو المحور الثاني. ففيما كان يوسف يطالب بأن تكون «أوجيرو» هي الجهة التي تنفذ المشروع وتحدّد كل تفاصيله، لزّمت الوزارة بناءً على قرار مجلس الوزراء رقم 37 الصادر في نيسان 2010 شركتي ألكاتيل وCET أعمال التمديد والتوصيل إلى السنترالات وإريكسون تركيب أجهزة التحكم في السنترالات، وذلك على أساس أن المرسوم 5613 يكلّف أوجيرو بأعمال «الصيانة» فقط. أما قيمة الالتزام فكانت تبلغ 70 مليون دولار، وقد حصلت الوزارة على سلفة خزينة بقيمة 100 مليار ليرة من أجل تغطية هذه النفقات.
إزاء هذا الأمر، عمد يوسف، منذ اليوم الأول على بدء تنفيذ المشروع، إلى مراسلة التفتيش المركزي مرات عديدة، متحدثاً عن مخالفات بالجملة، وكان قادراً على التأثير في قرارات رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، إذ رفض الأخير إصدار مرسوم إطلاق خدمات الألياف الضوئية الذي يضع هذه الشبكة قيد العمل، ثم ضغط على المحتسب المركزي من أجل منعه من دفع الأموال للمتعهدين، وذلك رغم وجود قرارين من ديوان المحاسبة يؤكدان أن اعتراضات المدير العام للاستثمار والصيانة عبد المنعم يوسف «تقع في غير موقعها القانوني». كذلك، اعترض يوسف على عدم إشراك مديرية الاستثمار والصيانة التي يرأسها ضمن لجان التسلم التي أنشأتها مديرية الإنشاء والتجهيز التي يرأسها ناجي أندراوس... ثم مرّت سبعة أشهر في إطار مماطلة ميقاتي وامتناعه عن توقيع المرسوم، إلى أن طارت حكومته وحلّت حكومة سلام بدلاً منها، والتي تضمنت بطرس حرب وزيراً للاتصالات بدلاً من نقولا صحناوي. كان يوسف جاهزاً لهذا التغيير، فقام مع حرب بجولة ميدانية على مشروع تمديد الكابلات وأطلق عملية تنقيب عن الكابلات أمام عدسات الكاميرات في مواقع معينة. وفي هذا الوقت، لم يكن المشروع قد وصل إلى مرحلة التسلّم التمهيدي بعد، لكن حرب ويوسف أحالا ملفاً بالمخالفات على التفتيش المركزي.
وقد استعر الخلاف بين أندراوس ويوسف، فالأول قال إن 82% من الاشغال صحيحة، وقال الثاني إن أكثر من 85% من الأشغال غير مطابقة للمواصفات. وفيما تبيّن لدى التفتيش المركزي أن هناك مخالفات واسعة في تنفيذ المشروع، بدأت الشركات بتصحيح بعض الأعمال بناءً على طلب حرب، ما جعل بعض المناطق محظوظة مثل بسكنتا وتنورين حيث «أعيدت الأعمال بالكامل»، تقول مصادر مطلعة، أما مصير المناطق التي لا وزير اتصالات لديها فبقي مجهولاً.
وفي هذا الوقت، استمرّ يوسف في رفض منح الشركات إذن دخول إلى السنترالات لتوصيل الكابلات، ما أدّى عملياً إلى منع تشغيل الشبكة وحوّلها إلى جثة هامدة مدفونة تحت الأرض. لكن أسوأ ما قام به، بحسب ما كشفته أعمال الرقابة، هو أنه عمد إلى شراء تجهيزات جديدة رديفة لما ركّبتها «إريكسون» في السنترالات، ودفع 5 ملايين دولار من المال العام، ثم رفض تسلّم الشبكة ومراكز التحكّم بذريعة أنها «شبكة حزب الله ولن أتسلّمها»، بحسب ما أفاد أمام التفتيش المركزي.




بات التفتيش المركزي على قاب قوس أو أدنى من إصدار تقريره بشأن مخالفات تمديد شبكة الألياف الضوئية. وتبيّن لمهندسي التفتيش أن هناك مخالفات للمواصفات، لكنها لا تستدعي التوقف عن تشغيل واستغلال الشبكة التي أنفقت عليها الدولة 100 مليار ليرة من المال العام. النتيجة جاءت معكوسة؛ فقد تراجعت تنمية القطاع لحساب الزبائنية السياسية بإشراف عبد المنعم يوسف (الصورة)، فلا يجري تشغيل أي نقطة في أي منطقة إلا بطلب من نائب أو وزير أو مرجعية تماماً كما حصل في الكورة وتنورين... هل هناك الجرأة الكافية لدى التفتيش لإصدار مثل هذا التقرير؟