تعرّضت المصارف اللبنانية لخسائر كبيرة ظهرت جليّاً مع بداية الأزمة في عام 2019. أحد مصادر هذه الخسارة هي القروض، وخصوصاً تلك المقوّمة بالعملات الأجنبية التي سُدّدت بالليرة على سعر صرف أقل من سعر السوق. ما حدث كان بمثابة عملية انتقال للثروة، من المودعين إلى المقترضين. ببساطة، القروض بالعملات الأجنبية انتقلت إلى جيوب المقترضين الذين أنفقوها وأعادوها بالعملة المحلية بأقل من قيمتها. في هذا السياق، ليس المقصود أصحاب قروض التجزئة بما فيها قروض الإسكان، بل أصحاب القروض التجارية. فبحسب أرقام مصرف لبنان، 71% من القروض التي سُددت منذ عام 2019 حتى شهر كانون الثاني 2023 كانت من القروض التي تفوق قيمتها 500 مليون ليرة (أي أكثر من 333 ألف دولار بحسب سعر الصرف 1500 ليرة للدولار).بحسب تقرير لـ Blominvest بعنوان "تقدير الخسائر التي تتكبدها المصارف بسبب استرداد القروض: أيلول 2019 - كانون الأول 2022"، تبلغ قيمة الخسائر التي تكبّدتها المصارف بسبب تسديد القروض على سعر صرف أقلّ من سعر السوق نحو 15.6 مليار دولار. يطرح التقرير هذا الرقم من وجهة نظر المصارفـ، التي تعتبر أن التعميم 648، الذي أصدره مصرف لبنان سبّب لها خسائر، علماً أن هذا التعميم نقل الخسائر من ميزانيات المصارف إلى ميزانية مصرف لبنان. فالتعميم قضى بإمكانية تسوية قروض التجزئة بالدولار، بسعر الصرف الرسمي، وليس بأسعار الصرف الموازية أو أسعار السوق السائدة. وطريقة عمل التعميم الرقم 648 تقوم على أن مصرف لبنان "سيشتري" هذه القروض من المصارف ويدفع ثمنها في المقابل عن طريق إيداع ودائع للمصارف بالدولار لدى مصرف لبنان بنفس المبلغ.
هذا الخطاب يتعاطى مع هذه القروض من ناحية دفترية فقط. بمعنى أن يقوم المصرف باسترداد الأموال التي أقرضها بنفس قيمتها. لكن وجهة النظر هذه لا تنظر في المشكلة الأساسية، إذ أقرضت المصارف الناس ومصرف لبنان بغير العملة المحلية التي لا يمكن طباعتها محلياً، أي أقرضتهم بالدولار الذي يعتمد سداده على تدفقات العملة الخضراء إلى البلد. من ناحية أخرى، نقل الثروة حدث بالفعل عندما قامت المصارف بإقراض أموال المودعين بالعملات الأجنبية في الأساس وليس عندما أصدر مصرف لبنان التعميم المذكور. التعميم حدّد الجهة التي ستستفيد من انتقال الثروة، وهم المقترضون الذين سدّدوا قروضهم بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية. لكن حتى لو لم يصدر التعميم، لكانت القروض المدعومة بالأصول الضامنة تمت تسويتها من خلال نقل هذه الأصول إلى المصارف، وهو عملياً نقل الثروة من المقترضين إلى المصارف، لأنه حتى اليوم لم يُصفَّ أيّ جزء من أصول المصارف بهدف تسديد الودائع، وكان مصير الأصول المنقولة من أصحاب القروض غير المسددة سيرد في ميزانيات المصارف فقط لتقوية قدرتها على التفاوض. أما القروض غير المدعومة فكانت ستصبح قروضاً "سيئة" غير مُسددة، وفي تلك الحالة كانت ستصبح خسائر مسجلة في البيانات المالية للمصارف، فيما هي اليوم مُسجّلة في البيانات المالية لمصرف لبنان.
المشكلة الأساسية هي أن المصارف أقرضت الناس ومصرف لبنان بغير العملة المحلية التي لا يمكن طباعتها محلياً


تقرير Blominvest يقوم على احتساب الفرق بين معدّل سعر الصرف في السوق في كل سنة وسعر الصرف الرسمي في تلك السنة، ويعتبر أن هذا الفرق هو عبارة عن خسائر قائمة على المصارف، بحجّة أن نقل هذه القروض من ميزانية المصارف إلى مصرف لبنان يحوّلها إلى أصول "باللولار". ويعتبر التقرير أيضاً، أن القروض التي سددتها القطاعات (في ما عدا القروض الفردية) كانت عبر شطب ودائع مقابلة، وأن هذه العمليات بلغت قيمتها نحو 7.4 مليارت دولار، علماً أن هذه العمليات أيضاً مثّلت نقلاً للثروة لأنها استفادت من شراء الودائع من مودعين بأسعار أقل من قيمتها (مع هيركات)، وسدّدوا بها قروضهم. لكن هذا الأمر لا يهمّ المصارف لأنها تعتبر أن شطب الودائع لم يسهم في زيادة خسائرها.
صحيح أن تقرير Blominvest يحاول تبيان الخسائر التي تكبّدتها المصارف بسبب تعميم مصرف لبنان، وهو قد يكون محقّاً إذا ما أُخذت الصورة بشكل مجرّد. لكن الصورة الكبيرة، توضح، في خلاصة الأمر، أن بداية الممارسات السيئة نقدياً واقتصادياً كانت من قبل المصارف التي أبدت استعداداً للإقراض بالعملة الأجنبية، وكانت هذه بداية عملية نقل الثروة من المودعين إلى الأطراف التي استفادت.
تقوم حسابات تقرير Blominvest على أن الودائع بالعملات الأجنبية للمقيمين انخفضت من نحو 90.8 مليار دولار إلى نحو 73.2 مليار دولار. ويتضمن هذا الانخفاض 1.9 مليار دولار "عمليات سحب محدودة من قبل العملاء، بالإضافة إلى عمليات السحب الأساسية (الإنسانية)، أو التحويلات، من تشرين الأول 2019 إلى نيسان 2020"، و7.7 مليارات دولار عمليات سحب محدودة على أساس التعميم الرقم 151 اعتباراً من نيسان 2020، و640 مليون دولار سحوبات محدودة على أساس التعميم 158 ابتداءً من حزيران 2021.