يحتفل لبنان اليوم بذكرى استقلاله الـ79 في ظلّ فراغ رئاسي، وحكومة مستقيلة، وانقسام سياسي عَمودي حادّ، ووضع اقتصادي متدهور، وعدوّ متربّص خلف الحدود الجنوبية. الثابت الوحيد في المشهد هو الجيش اللبناني الذي يجمع كلّ اللبنانيين تحت لوائه. قبل ذلك بنحو 15 سنة، ولسنوات مماثلة، كان يجمع شبابه تحت لواء خدمة العلم، أو الخدمة الإلزامية. فهل يمكن لها أن تعود؟ قد يبدو سؤالاً من خارج السياق في خضمّ الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، إلا أن طرحه أثار شجوناً كثيرةبعدما عادت في عام 1993، أُلغيت خدمة العلم بصورة نهائيّة عام 2007، بموجب القانون 665 الصادر في 4 شباط 2005. وحتى تاريخه، بلغ عدد الشباب الذين أدّوا الخدمة في معسكرَي الوروار في بيروت (أنشئ عام 1993) وعرمان في شمال لبنان (أنشئ عام 1995) 250 ألف مجنّد، بحسب الموقع الإلكتروني للجيش اللبناني.
على مدى 14 سنة، كانت هذه الخدمة محلّ أخذ وردّ بين الشباب. الترويج لها اتّخذ أشكالاً عدة، منها إطلاق أغانٍ خاصة بها كما فعل النجم الصاعد في حينه وائل كفوري، مبلّغاً حبيبته وجمهوره «أنا رايح بكرا ع الجيش». في المقابل، لم يعدم رافضو الخدمة السبل للتهرّب منها، فكثر المقبلون على الدراسات العليا (قسم الديموغرافيا في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية احتضن العدد الأكبر).
سؤال الشباب اليوم عن رأيهم في عودة خدمة العلم لا يأتي بإجابات مختلفة عن السابق. حتى مع التذكير بأهميتها مثل غرس روح النظام والانضباط، تنمية اللياقة البدنية، اكتساب مهارات عسكرية، التنشئة الوطنية وتغليـب فكرة الانتمـاء الوطنـي...

لماذا أعذّب نفسي؟
لا يرحّب معظم من سألناهم بفكرة مغادرة منازلهم للالتحاق بالجيش، والعيش في معسكر لسنة كاملة. تنتفي لدى كثيرين أيّ مسؤولية تجاه الوطن، فـ«هناك جيش ومقاومة يدافعان عنّا في وقت الحرب، لماذا أعذّب نفسي»؟ يقول حسين. ويذهب سامر أبعد بكثير في رفضه خدمة العلم انطلاقاً من الحقد الذي يحمله على «الحكام الفاسدين». يجد أن «البلد لا يستحق منّا خدمة من دون مقابل مادي، خاصة في ظلّ الظروف الاقتصادية الصّعبة التي يمرّ بها».
وكما يرفض البعض خدمة العلم الإلزامية لأنها «تعارض مبدأ الحريّات، ولا تحترم رغبتهم في أن لا يكونوا مقاتلين في خطوط الدفاع عن الوطن ولا حتى احتياطاً»، هناك من لا يبخل على بلده بدمه، لكن لا يثق بالجهة التي سيبذل تحت لوائها دمه. يسأل حسن مثلاً: «هل المؤسسة العسكرية وطنية فعلاً؟ أم أنها تعمل لصالح أجندات خارجية؟».
في المقابل، هناك من يشجّع على عودة التجنيد الإجباري لأسباب تتعلق بـ«تخشين» الشباب، الذين يصفونهم بجيل «الكرتون» أو «الإسفنج»، أيضاً للاستفادة من الخبرات والمهارات التي تنمّيها الحياة العسكرية على أكثر من صعيد. يجد جهاد أنه «من غير المنطقي ألا يكون هناك تجنيد إجباري في لبنان يعزّز انتماءنا إلى الراية والمؤسسة العسكرية». ويثني أنصار عودة خدمة العلم كذلك على الاختلاط الذي توفره الخدمة بين الشباب من مختلف الطوائف. لكنّ لراجي رأياً مغايراً، فـ«انصهار الشباب والعيش المشترك ليسا إلا فولكلوراً، لأن سنة واحدة لن تغيّر في الواقع الطائفي المتجذّر فينا».

الحياة العسكرية قاسية
يتفق من أدّوا خدمة العلم على القول إن الحياة العسكرية تجربة صعبة وقاسية. يختصرونها بحصر الحرية، الاشتياق للأهل، الاتكال على النفس، الانصياع لأوامر الضباط... لهذه الأسباب أحبّها البعض ولم يتحمّلها البعض الآخر. يقول علاء، الذي خدم «مرغماً» عام 1996 أنه «لو ملّكوني الدنيا لا أذهب ثانية إلى الخدمة»، لماذا؟ «بسبب المعاملة السيئة من قبل الضباط، وعدم احترامنا واحترام حرياتنا بما فيها الحريات الدينية». ويروي كيف كان يصلي خفية خلف الخيمة كي لا يراه الضابط. لا يذكر البدل الذي تقاضاه، لكنه يؤكد أنه كان يأخذ بدل النقل من «والدتي رحمها الله». كما يذكر أن فوج المجوقل حيث خدم، مثل فوج المغاوير، كان «مدلّلاً، ويأتيه أشهى المأكولات مثل الدجاج والملوخية والفاصولياء».
هناك جيش ومقاومة يدافعان عنّا في وقت الحرب فلماذا أعذّب نفسي؟


يلخّص محمد تجربة خدمته العلم عام 1998 بعبارة: «تألّمت فتعلّمت». يتحدث عن معاملة قاسية جداً، إذ أجرى دورة تنشئة وهو خاضع للتوّ لعملية جراحية لرجله. «أعطاني الطبيب مأذونية أسبوعين وحرمني إياها الضابط لأسباب أجهلها»، يقول. تدرّب محمد على استخدام الأسلحة الفردية الخفيفة والمدفعية وشارك في مداهمات الجيش في المنصورية للقبض على مطلوبين. ومع أنه «انمسح فينا الأرض»، على حدّ تعبيره، إلا أنه «تعلّمت الانضباط والصبر على ظروف الحياة الصعبة، والاعتماد على النفس، بعدما غادرت منزلي في عزّ شبابي، أكلت وحدي وغسلت ثيابي بنفسي لأول مرة».
أحسّ فؤاد بالانتماء إلى الوطن وإلى المؤسسة العسكرية جرّاء خدمة العلم عام 1997. إحساسه بالوطنية في كلّ مرة وقف فيها على الحاجز جعل من الخدمة «تجربة ممتعة»، لا يتردّد في تكرارها، كما يشجع بقوة على عودتها لـ«تأسيس جيل وطني يخدم تراب وطنه من دون مقابل فقط لأنه يشعر بالوطنية». تعرّف فؤاد خلال الخدمة إلى شباب من مناطق وديانات مختلفة و«قضينا وقتاً ممتعاً معاً»، لا يزال يزورهم حتى اليوم.



حسين ياسين: مع عودتها ولكن
بعد إنهاء دراسته الجامعية في مجال الإعلام، أدّى مراسل قناة «بي إن سبورتس» الرياضية في إيطاليا حسين ياسين واجبه الوطني وخدم العلم، «مثلي مثل غالبية أبناء جيلي، ممن خدموا برغبتهم أو مكرهين».


يصف حسين الحياة العسكرية بـ«الجديدة»، علّمته دروساً لكنها لم تعرّفه إلى الآخر، لأنه خدم في عام 2000 «أي بعد نهاية الحرب بوقت طويل، وكانت العلاقة مع الآخرين قائمة، لكنها عرّفتني إلى عاداتهم ومناطقهم بما أنني عشت معهم بشكل يومي. بهذا المعنى كانت تجربة جديدة». هي أيضاً تضييع للوقت لأنّها حرمته من الاستمرار في عمله، «الأمر الذي أحبّه وأجده متنفّساً». بخلاف عدد من زملائه الذين استمروا في أعمالهم سراً، في ظل غضّ نظر من قبل المسؤولين، إلا أنّ هذا الأمر لم يكن متاحاً له «كنت أعمل في التلفزيون، فلا يمكن لعملي أن يبقى سرياً».
لذا ينتقد مدة الخدمة بقوله: «طويلة وقد تضيّع فرصاً من طريق الشباب». برأيه، يجب ألا تتخطى الستة أشهر، و«هي مدة كافية لتحقيق الأهداف المرجوّة من خدمة العلم».
أما طرح عودة خدمة العلم الإلزامية، «فأيّ إنسان وطني لن يكون ضدّه... عندما يتعافى البلد». لكن، في الوقت الحالي يعارضه، لأن «هناك عناوين كثيرة أساسية أهم يجب تأمينها وحلّها قبل التفكير في خدمة العلم».