«المصبغة لا تموت»، هكذا عبّر غسان العبيد عن المهنة التي يمارسها منذ 22 عاماً. صاحب المصبغة الضخمة في قضاء زغرتا، يشكو من تراجع وتيرة العمل. «الشغل خافف كتير»، فالمناسبات قليلة والتنقّل أقل ممّا كان عليه في السابق، بسبب الأزمة الاقتصادية وأزمة البنزين.

المصابغ في حالة صمود اضطراري، فلا الإقفال يحلّ المشكلة، ولا البقاء في حالة عجز يُعدّ منطقياً، لكن «القرقشة أحسن من الجوع»، خصوصاً إذا كان البديل مفقوداً. ويبدو أن محلّات «المِلك» هي من أبرز عوامل البقاء، فارتفاع الإيجارات بات يكسر ظهور أصحاب المصلحة، حتى أن كثيراً منهم، في أقضية الكورة وطرابلس وزغرتا، يتّجه صوب الإقفال إن لم تتحسن الأوضاع قريباً، ولو بشكل طفيف.

«ابن المصلحة بضلّ يدبّر حالو»، لأنه على علم بكل المخارج والحِيل التي يمكن أن يعتمدها حيال إيجاد بدائل أكثر توفيراً، من دون المسّ بجودة الخدمة. ولأن أغلب من هم في هذا المجال ليسوا أولاد الكار، كما يقول العبيد، فإنهم يعانون اليوم من حالة تشتّت، ومعظمهم يلجأ إلى صرف موظفيه «لأنو بطلت توفّي».

ويضيف الأخير، أن التوفير ليس دائماً الخيار الذكي، لأن العودة إلى الغسيل بالمياه فقط في هذا الزمن، واعتماد الطرق التقليدية حصراً «ما بيزبط»، واصفاً من يقوم بذلك بـ«الغشيم» الذي يدمّر سمعته في السوق.

عالم اليوم ليس كعالم أمس، فالزبون بات دقيقاً، وتلف أي قطعة يُحدث مشكلة، خصوصاً أن «الثياب غالية»، وبعضهم لا يرتدي إلا «ماركات». بالتالي، يهرع صاحب المصبغة التقليدية إلى المصبغة الحديثة «مُوَلوِلاً»، طالباً منه العون، بسبب تبدّل في لون فستان مثلاً، لعدم امتلاكه الخبرة في التعامل مع كل قماشة أو لطخة بما يناسبها.

ومع أن للتوفير مضارّه، إلا أن لا مفرّ منه. فهُم أُجبِروا على المُرّ لتفادي ما هو أَمَرّ منه. لكن لا يرتبط كلّ توفير بالأزمة الاقتصادية فحسب. فكثير من المصابغ لم تألف التنظيف على الناشف يوماً، ولم تمارس المهنة على أصولها.

التنظيف على الناشف هو عالمٌ بحدّ ذاته، لكنّ الغلاء الفاحش دفع المصابغ إلى التخلّي عنه بالكامل. فثمن الغسالة الخاصة بـ«الدراي كلين» مثلاً، يصل إلى 12 ألف دولارٍ أميركي. وسعر برميل مادة «البركلور»، الخاص بهذه الآلة، والذي يحتوي على 200 ليتر منها، يفوق الـ500 دولار. على إثره، أصبحت المصابغ تعمل وفق سياسة تخيير الزبون: فإذا أراد الزبون لقطعته أن تُنظّف على الناشف، يدفع 8 آلاف ليرة بدل استخدام المادة المخصصة لذلك، إلى جانب عن كلفة الغسيل العادي والكيّ الثابتة.

وحالياً، تُباع البضاعة على دولار السوق السوداء، فيما ربح المصابغ باللبناني: «كم ألف ليرة»، لا تتجاوز نصف دولار على سعر صرف اليوم، على حدّ تعبير العبيد.

(فاطمة هاشم)()


يحاول أصحاب المصابغ تصحيح الصورة النمطية الخاطئة لدى العامة، لتبرير رفع الأسعار الخجول والمدروس. يرفضون المثل الشائع «شريك الماي ما بيخسر»، ويأكدّون على أن مصروف المصبغة مرتفع جداً.

فقنينة «التارغو» لإزالة البقع بمئة دولار، وعلبة قطع البلاستيك التي تُلصق تحت أكتاف السترة، لتُبقيها مشدودة بعد كيهّا بـ25 دولار، و قنينة بخاخ الزيت، والتي لا تكفي إلا لإزالة 20 بقعة، بـ150 ألف ليرة. وبخاخ «النشا» المستخدم لكيّ القمصان ذات الأقمشة الحساسة، بعشرة دولارات. ودفع ذلك بـ«معلّم الكوي» للاستعاضة عنها بـ«تكنيك» رفع حرارة المكواة وعيار الشفاط الخاص بها، لتبريد القطعة مباشرةً بعد «الكوي». ويُضاف إلى ذلك، ارتفاع سعر كيلو النايلون و«شوال التعاليق»، البالغ 25 دولاراً.
والقائمة تطول، من كفّ «تفلون» وأصابع تنظيف المكواة وغيرهما، علماً أن هذه القطع كلها تحتاج إلى تغيير إما أسبوعي أو شهري.

باتت الكلفة المرتفعة جداً أكبر من أن يتحمّلها أي صاحب مصبغة إذاً. بالتالي، لجأ كثيرون إلى الاكتفاء بالوظيفة التقليدية للمهنة، خصوصاً أن الحد الأدنى لكيّ وغسيل القطعة لا يزال يتراوح بين 8 و 12 ألف ليرة. ويعزو أصحاب المهنة هذا التفاوت إلى عوامل عديدة، أهمّها المستوى المعيشي لسكان المنطقة حيث تتواجد المصبغة.

ومع أن المراعاة في الأسعار كبيرة، لا يزال بعض الزبائن يسحبون قطعهم عندما يعرفون بدل غسيلها أو كيّها.

في السابق، كانت هذه المهنة مُربحة، لكن أصحابها اليوم يتحسّرون على الفرق الشاسع في مستوى الربح. فغسيل اللحاف المجوز، قبل الأزمة، كان بـ12 ألف ليرة، أي ثمانية دولارات. لكنه اليوم بـ30 ألف ليرة كحد أقصى، وهو مبلغ بالكاد يساوي دولارين في يومنا هذا.

يقسّم أصحاب المصابغ الزبائن إلى فئتين، الأولى ميسورة لا تسأل عن السعر، والثانية «تنقّ». ويُأكّدون أن أغلب الزبائن ينتمون إلى الثانية، رغم إدراكهم فظاعة الأزمة. ولأن المصبغة هي من «الكماليات»، يعتقد أصحاب المصابغ أنهم مستمرّون بفضل الفئة الميسورة، القادرة على تمويل الكماليات.

وقد زادت هذه الفئة تحديداً من اعتمادها على المصابغ أخيراً، لأن أغلبها كان يكلّف العاملة المنزلية بأمور التنظيف والغسيل و«الكوي». إلا أن بعضهم اليوم، وجد المصبغة أوفر، فالعاملة تكلّف بحدود الأربعة ملايين ليرة شهرياً، عدا عن مصاريف أخرى. أما فاتورة هذه العائلات، فلا تتجاوز المليون ونصف المليون ليرة شهرياً في المصبغة، حتى في حال الاعتماد على الأخيرة بشكلٍ كُليّ.

وعليه، فإن دولاب الزبائن يدور دائماً في الأزمات. فمنهم من «يطفش»، ومنهم من تأتي الأزمة لصالحهم، فتُحسّن من مستواهم المعيشيّ، ليساهموا ولو بشكلٍ محدود في صمود بعض المحال التجارية. وفي فترات ذروة عمل المهن تحديداً، كلّ بحسبِ موسمها، تُعدّ «تعزيلة» بداية فصل الشتاء ونهاية الموسم الصيفي، والعكس صحيح، بمثابة آلة تنفّسٍ للمصابغ.

بدوره، يُعتبر موسم السياحة مصدر إنعاش لها، في المناطق السياحية بشكل خاص. إحدى المصابغ في جونيه، اعتمدت هذا الموسم على حركة السياح وتلبية حاجات الفنادق المحيطة، ووفّرت خدمة التوصيل المجاني في المنطقة لتشجيع الزبائن. وحتى لو شهدت المهنة موسماً جيداً، فإن ذلك غير كافٍ بالنسبة لزكريا موسى، صاحب المصبغة المذكورة أعلاه، ليُبدي تفاؤلاً، لأن الحركة، كما يقول، ستعود وتنعدم في الشتاء، مؤكداً أن المهنة حاليّاً «خسارة بخسارة».

حِمل هذه المهنة بات مُرهِقاً. فثمن المازوت باهظ، وهو ضروري لتوليد البخار. والكهرباء ليست بالبديل الأوفر، ففاتورة اشتراك المولّد وصلت إلى 5 مليون ليرة في بعض المصابغ، ما اضطُرَّ بعضها إلى الاستغناء عن الاشتراك بالمطلق، والتحوّل إلى «ناطور» لملاحقة ساعات تغذية كهرباء الدولة، فبات العمل في الليل والنهار، من دون دوامٍ محدّد، بحسب قاسم زهر، صاحب مصبغة زهر في حارة حريك.

والمياه، كذلك، ليست بحالٍ أفضل من سابقاتها. فانقطاعها بات يُكلّف أحمد الحوت، مليون ونص المليون ليرة شهرياً كحدّ أدنى. الحوت، وهو صاحب مصبغة أيضاً، اختار نقل مصبغته من الأشرفية إلى طريق الجديدة، لأنه لم يعد قادراً على دفع إيجار المحلّ. وهو ليس وحيداً في معاناته، فإيجار محلّ مصبغة «لميس» في الضاحية الجنوبية، ارتفع أكثر من الضعف، حتى وصل إلى مليون ونص ليرة لبنانية.

حبّات سُبحة الأزمات تفرط واحدةً تِلو الأخرى، بدءاً بالثورة، ليليها وباء «كورونا»، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية: «الحمدلله بعدنا صامدين، لو جبال كانت انهدّت»، على حدّ تعبير صاحب إحدى المصابغ.

في وقت سابق، شلّ قطع الطرقات والإقفال العام المهنة. فأجمع أصحاب المصابغ على أن الناس كانت ترتاب من إرسال ثيابها إلى المصابغ، خصوصاً في فترات ذروة الجائحة، خوفاً من العدوى، في حال اختلطت ثيابهم مع ثياب زبائن آخرين، خلال عملية التنظيف. لكن الأمر لا ينطبق على زبائن مصبغة «لميس»، كما تقول صاحبتها، لأن كثيراً منهم اعتمد عليها في تعقيم قطعهم بعد الشفاء من فيروس «كورونا»، عقب رفض كثير من المصابغ استلام هذه القطع. في الواقع، تؤمن لميس أن كونها امرأة، كان عاملاً مساعداً في «حلحلة» العمل خلال تلك الفترة، لأن «تنظيف المرأة يختلف عن تنظيف الرجل».

«كارثيّة» أو «دمار»، بهاتين الكلمتين انحصرت إجابة أصحاب المصابغ عند سؤالهم عن الأعطال التي أصابت، أو التي من الممكن أن تصيب أدوات مهنتهم. فتغيير «resistance» المكواة، مثلاً، بـ50 دولار. بمعنى آخر، الأعطال «موجعة جداً»، كما يقول صاحب مصبغة «مارتينا»، الذي يملك 3 آلات مهمة متوقفة حالياً عن العمل. وإذ لا يقدر على إصلاحها، يتّبع سياسة صيانة «الضروري جداً» فقط.