تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي بالنكات عن استبدال الحمير بالسيارات. وذلك على خلفية ارتفاع أسعار المحروقات وانقطاعها. حتى جاء تصريح وزير الطاقة والمياه ريمون غجر، ليتوّج الكوميديا السوداء عندما أنذر بأن «البنزين سيصبح حكراً على الأغنياء، وعلى الآخرين أن يبحثوا عن شيء ثان».
لكن «الشيء الثاني» متوافر من قبل الأزمة الحالية، في كثير من القرى النائية في الأطراف. هناك حيث الأزمة مزمنة بغياب خدمات الدولة من شق طرقات وتعبيدها، والعدد المحدود لمحطات الوقود. انعكست أزمة البنزين على مستخدمي الدواب في التنقل، لا سيما المزارعين، بارتفاع أسعار الحمير وانقطاعها!

البحث عن الحمير في القرى بات أمراً صعباً. الحمير باتت في حكم المنقرضة، والعودة إليها ليس سهلاً، وإن كان على سبيل الاحتياط. حتى في البلدات الحدودية، بعض مربّي الحمير تخلّوا عنها، باستثناء كبار السن ممن لا يجيدون قيادة سيارة، أو لا يملكون ثمنها أو ثمن آلية مناسبة للحقول. فهل يمكن للدعوات إلى استخدام الحمير أن تصبح واقعية بعيداً من العالم الافتراضي والنكات؟

أبو يحيى (85 سنة)، من بلدة حولا، من تجار الحمير سابقاً. «كنت أشتري الحمير أسبوعياً من حاصبيا وشبعا، وأبيعها في أسواق بنت جبيل ومجدل سلم وصور. كان ثمنه مرتفعاً، بسبب الحاجة الماسة إليه، حوالي 600 ليرة لبنانية، أي ما يكفي قوت العائلة لشهرين كاملين». يقرّ أبو يحيى بأن هذا السعر لم يعد مرتفعاً حالياً، بل «لقطة». تضاعف السعر مرات عدة حتى بات نادر الوجود، ويمكن أن يصبح امتلاكه حكراً على الأغنياء على غرار مربّي الأغنام والأبقار. بعد تحرير الجنوب عام 2000 وانفتاح المنطقة جغرافياً، بدأ الناس يستغنون عن الحمير، بحسب أبو يحيى. في حولا على سبيل المثال، اقتصر عدد الحمير على 12 فقط. «ارتفاع تكاليف الزراعة والحراثة والنقل، فضلاً عن انقطاع الوقود، شجّع بعض المزارعين على إعادة استخدام الدواب، لا سيما الحمير. لكنهم اكتشفوا أن الحمار الذي تهاونوا به قبل سنوات واستغنوا عنه، صار صعب المنال».

معظم الذين يملكون الحمير اليوم، موجودون في شبعا وحاصبيا. تلك المنطقة جبليّة ووعرة، يضطر المزارعون إلى اقتناء الحمير بسبب صعوبة الوصول إلى بعض الأراضي الزراعية بالآليات. مربّو الحمير يتمسكون بها، بل يبحثون عن مزيد منها، ولا يجدون. ثمن الحمار يزيد على ثلاثة ملايين ليرة، بينما يزيد سعر البغل عن أربعة ملايين. هذا الثمن يبدو رخيصاً نسبة إلى أسعار اليوم، لكن المشكلة بحسب أبو يحيى، في أن «تربية الحمير باتت مكلفة، لأن الحمار الواحد يحتاج سنوياً إلى قنطار من الشعير (حوالي ألف كيلوغرام)، وأكثر من خمسة قناطير من التبن. فيما ثمن قنطار الشعير 5 ملايين ليرة، وثمن قنطار التبن 500 ألف ليرة. ما يعني أن إطعام الحمار يكلّف سنوياً حوالي 8 ملايين ليرة.

بلدة عيترون كانت من أكثر البلدات الجنوبية اقتناءً للحمير. الحمار حتى مطلع التسعينات كان موجوداً في كل منزل بخلاف اليوم. وكذلك الحال في البلدات المجاورة في قضاء بنت جبيل. عدوان تمّوز 2006 ساهم في انقراض ما تبقّى من أعداد الحمير في القرى الجنوبية، بحسب المزارع سليمان عيسى. «فقدت البلدة العدد الأكبر من حميرها الباقية بسبب القصف والعطش. وهو ما حصل في بلدتي يارين وأمّ التوت، اللتين تعتمدان على الزراعة البدائية». حينذاك، ونزولاً عند طلب الأهالي المتضررين، قدّمت بعض الجهات المانحة، الحمير  كـ«إعاشات» تعويضاً عن الحمير والبغال التي نفقت خلال العدوان. لكن تبيّن أنها «مريضة وغير قادرة على الحمولة وكبيرة في السنّ، وقد نفق أغلبها» تقول عزبة غنّام من بلدة يارين. ويذكّر أحد أبناء بلدة عيتا الشعب، أن «كل الحمير المتبقية في الجنوب هي من جنس الأنثى، ولا يوجد أي حمار ذكر، أما البغل، هو الأكثر طلباً بسبب قوته الجسدية، لكنه الأغلى ثمناً».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا