باتت جائحة «كورونا» عامل تسعير إضافياً في الصراع بين بكين وواشنطن، ومؤشراً على تحولات موازين القوى الدولية. وقد كشفت الأزمة الصحية مدى ضعف الأداء الأميركي في مواجهة الجائحة، وانتقاله من الإنكار إلى نمط من الانعزالية القومية. كما أظهرت، في الوقت نفسه، انقسام القادة الأوروبيين.أما الصين، من جهتها، فقد نجحت في اعتماد استراتيجية فعّالة سمحت باحتواء الجائحة وبانتعاش اقتصادها في الآن نفسه، ومكّنتها من تعزيز نفوذها الخارجي عبر تقديم المساعدات الطبية إلى البلدان الأكثر تضرراً من الوباء. مارك جوليين، مدير شؤون الصين وآسيا الوسطى في المركز الفرنسي للعلاقات الدولية، رأى في حديث إلى «الأخبار» أن الصين «نجحت في تحويل التهديد إلى فرصة، بعدما كانت صورتها، حتى نهايات كانون الثاني الماضي، قد تضرّرت كثيراً على النطاق الدولي». ووفقاً للخبير الفرنسي، فإن «النظام السياسي الصيني تأخر لمدة شهر بسبب إشكاليات مرتبطة بآليات عمله الداخلية في إيصال المعلومات إلى أعلى هرم السلطة عندما كانت الأزمة محصورة في مقاطعة هوبي. غير أن بكين تمكنت من تجاوز الأزمة في أبعادها الصحية والاقتصادية والسياسية ما يسمح لها اليوم بتقديم نموذجها السلطوي باعتباره أكثر عملية وفعّالية من ذلك الديمقراطي». وهي إذ استفادت بالطبع من الدعاية الصاخبة حول مساعداتها الطبية لأوروبا، «فقد وظفت التشوش وانعدام الدقة في المعلومات لمصلحتها لأن الأمر لم يكن محصوراً بمساعدات مجانية. فإيطاليا مثلاً تقدمت بطلبات شراء لمعدات وأجهزة طبية إلى مورّدها المعهود. لكن، لا يلغي هذا الأمر واقع أن قرار بكين، الذي يندرج في إطار التعاون الطبي، بإرسال 9 خبراء إلى إيطاليا على متن طائرة مليئة بالأدوات والمعدات الطبية أعطيت كهبة، سيزيد من قوتها الناعمة».
بحسب جوليين، حضور الصين الدولي يتسع وكذلك نفوذها في المؤسسات الدولية ودورها الاقتصادي والسياسي على نطاق الكوكب في الوقت الذي يتراجع فيه الدور القيادي لواشنطن. لكن الصدمة الناجمة عن الجائحة تنذر بكساد عالمي كبير: «التباطؤ الاقتصادي الصيني بدأ منذ فترة ومعدل 6% نمو سنوياً لبلد قاري غير مطمئن للسلطات. قبل الجائحة، كان التحدي الأبرز بالنسبة إلى بكين هو الحد من انعدام التكافؤ في النمو بين المقاطعات وكذلك من الفوارق في الدخل بين الطبقات الاجتماعية على المستوى الوطني والاتجاه نحو تنمية أكثر انسجاماً واندماجاً. عطّلت الجائحة في بداياتها الآلة الاقتصادية وهي تعاود العمل حالياً، ولكن ليس بكامل طاقتها. لقد رُفع الحجر في هوباي ولكنه لم يُرفع حتى اللحظة في ووهان».
يذكر الخبير الفرنسي بأن الصين سبق أن واجهت وضعاً مشابهاً خلال تفشي وباء «سارس» في عام 2003 الذي أفضى إلى تباطؤ اقتصادي لمدة 3 أشهر تبعه انتعاش قوي. لكن قدرة النظام الاقتصادي على التكيّف ستخضع لامتحان صعب، إحدى سماته اللافتة تراجع نسبي في حيوية الاقتصاد. وحسب جوليين، فإنه ينبغي «الأخذ في الاعتبار أن الشركات التي بالغت في اعتمادها على السوق الصيني ستسعى لتنويع شراكاتها في المستقبل. صناعة السيارات مثلاً المعتمدة على شبكات الإنتاج الصينية رأت إيراداتها تتراجع بنسبة تتراوح بين 50 إلى 60%. الوضع نفسه ينطبق على صناعة السلع الكمالية التي كانت تُصدّر إلى الصين».
لحسن حظ الصين، فإن الأزمة تحولت إلى فرصة مكّنت شركاتها من تطوير قدراتها التكنولوجية. ففي سياقها، استطاعت أن تستخدم أنظمة تحقق متقدمة تسمح للمسافرين بمعرفة إن كانوا على اتصال أو قرب أشخاص مصابين بفيروس «كورونا»، وكذلك الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي عن أدوية وعلاجات للفيروس. جوليين مقتنع بأن الصين اليوم هي مختبر تكنولوجي مذهل بفضل نظام البيانات الضخمة المعزّز بعدد سكانها الـ 1,4 مليار، ونظامها القانوني الأكثر تساهلاً في مضمار استخدام المعطيات. «تتميز الصين عن الولايات المتحدة في ميدان التنافس التكنولوجي بقدرتها على تطوير بعض التكنولوجيات والخدمات بسرعة أكبر. لكننا نعرف أيضاً أن السوق الأهم بالنسبة إلى هذه التكنولوجيات الجديدة هو السوق الصيني. من غير الواضح الى الآن ما إذا كانت الصين ستتمكن من تصدير تكنولوجيتها كما تفعل الولايات المتحدة. تطبيق «تيك توك» مثلاً نجح في غزو الأسواق العالمية ولكن إذا نظرتم إلى برنامج «وي تشات» للتواصل الاجتماعي أو إلى «علي بابا»، وهو ما يسميه البعض «أمازون الصيني»، فإن استخدامهما يبقى محصوراً في السوق الصيني، بينما اجتاحت الولايات المتحدة منذ زمن بعيد الأسواق العالمية».