في إسبانيا، كما في بقية الدول الأوروبية حيث تفشّى فيروس «كورونا»، بات المشهد مألوفاً: شوارع فارغة من المارّة، محالّ مُقفلة، مدارس وجامعات خالية من الطلّاب...ولكن في إسبانيا أيضاً، كما في بقية الدول الأوروبية، تأخّرت الحكومة في اتخاذ إجراءات جذرية لاحتواء الفيروس، قبل تدهور الأوضاع وارتفاع أعداد المصابين بشكل كبير، عشية إعلان حالة الطوارئ، وغداته، لتتضاعف أعداد الإصابات، أمس، إلى أكثر من 11 ألفاً وحوالى 491 وفاة، بعدما كانت الأحد حوالى 6 آلاف إصابة و191 وفاة.
النهج الذي اعتمدته الحكومة الإسبانية ليس معزولاً عن ذاك الذي اتّبعته بقية الدول الأوروبية. فهي، مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا، بدأت بمعالجة هشّة للأزمة، معتمدة مقاربة أكثر ميلاً إلى إيلاء الأولوية للجانب الاقتصادي، على اعتبار أنّ هذا القطاع سيكون الأكثر تضرّراً من أي إجراءات جذرية. وكما هي الحال في إيطاليا خصوصاً، برزت مخاوف من تضييق الخناق على حركة الناس في إسبانيا التي تعتمد بشكل كبير على صناعة الخدمات، ولا سيما قطاع السياحة الذي يمثل 12% من الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن الإشارة، في هذا المجال، إلى تقرير نُشر يوم الجمعة، حذّر فيه أكاديميون من جامعة «إيساد» Esade من أن الأثر الاقتصادي لفيروس «كورونا» على إسبانيا، «سيكون أكثر شدّة ممّا هو عليه في دول أخرى بسبب هيكليتها الاقتصادية».
بغضّ النظر عن الجانب الاقتصادي، باتت إسبانيا، مع مرور الوقت، أمام واقع لا مفرّ منه، حتّم تدخّلاً حكومياً لتقييد حركة الناس وإجبارهم على البقاء في المنازل، كأقلّ إجراء ممكن ومتوفّر. إجراءات سبقتها أيامٌ حافلة بالعوامل المساهِمة في استفحال الأزمة، المدفوعة بجانب منها بشبه غياب للدولة. فمنذ أسبوع فقط، مشى حوالى 120 ألف شخص في وسط مدينة مدريد، احتفالاً بيوم المرأة العالمي. وشغل حوالى 60 ألف مشجّع مقاعد مدرّجات أكبر ملاعب العاصمة، بينما تجمّع نحو 90 ألف مناصر لحزب «فوكس» Vox، ثالث أكبر الأحزاب في البلاد (يمين متطرّف)، في أحد المراكز.
تجمّعات، واحتفالات، ولقاءات، وغيرها من نشاطات «الحياة الطبيعية»، تضافرت لتوصل إسبانيا إلى المرتبة الثانية أوروبياً، في عدد الإصابات، ولتواجه أسرع انتشار للوباء عالمياً. وتكفي الإشارة في هذا المجال، إلى أنه بين يومي الجمعة والأحد الماضيين، ارتفع عدد المصابين من بضع مئات إلى آلاف. ويمكن إضافة إشارة أخرى، وهي أنّ مدريد تحوّلت، أخيراً، إلى مركز الأزمة، بعدما كان الانتشار الأوسع للفيروس في مدن إقليمَي الباسك وكاتالونيا. وقد سجّلت العاصمة، أمس، 355 حالة وفاة، أي ما يساوي 72% من إجمالي الوفيات، فضلاً عن احتوائها نسبة 43% من حالات الإصابة.
في ظلّ كلّ ذلك، كانت السلطات الإسبانية، حتى يوم الجمعة الماضي، تتجنّب اتخاذ إجراءات شاملة يمكن أن تخيف الناس. بل إنّ رئيس الحكومة بيدرو سانشيز تفادى الأسئلة عن حالة الطوارئ، في مؤتمر صحافي عقده عبر الفيديو، الخميس، بينما كان هو وأعضاء حكومته يخضعون لاختبار فيروس «كورونا». يومها، اعترف سانشيز بأنّه لا يوجد «كتيّب تعليمات» من أجل التعامل مع هذا النوع من الأزمات الصحية، لكنّه أضاف إنه يمكن أن يقدم «رسالة من الهدوء والسكينة والوحدة، وقبل كل شيء الثقة في أولئك الذين يعرفون كيفية احتواء امتداد هذا الفيروس». رسالة تبيّن أنها ناقصة، بل مغلوطة وخاطئة وغير معبّرة عن الواقع. حتى إن العديد من المتخصّصين في الشأن الصحّي، وصفوا لهجته المطمئنة بـ«المبالغ فيها». ووصل بهم الأمر إلى حدّ اتهام الحكومة باعتراض الطريق، بدلاً من السماح للمحترفين بقيادة العمل، ولا سيما أنّ المستشفيات في مدريد كانت تنازع من أجل إيجاد المزيد من الأقنعة والأسرّة للتعامل مع المعدّل المتزايد من الإصابات.
تدفع إسبانيا والدول الأوروبية ثمناً مضاعفاً بعدما قدمت الاقتصاد على مقاومة الفيروس


بناءً على ما تقدّم، اضطُرّت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ التي دخلت حيّز التنفيذ، السبت الماضي. إلا أنّ مقاربتها الأولية، والتي بدت غير مكتملة، إضافة إلى فشلها في اتخاذ خطوات مخفِّفة، في وقت أقرب، لم تشفع لها أو تجنّبها الانتقادات الحادّة من الداخل والخارج. وليس من المستغرب، وسط كل ذلك، أن يؤدّي التدهور السريع للوضع، إلى زيادة حدّة المشاحنات السياسية، في بلد يعاني أصلاً من انقسامات سياسية حادّة، بعدما بالكاد تمكّنت قيادة سانشيز لحكومة ائتلاف أقلية يسارية، من تسلّم منصبها في وقت سابق من هذا العام. حتّى إن الأنباء عن إصابة اثنين من وزرائه بالفيروس زادت من حدّة الانتقادات، في وقت تبيّن فيه أنّ ثلاثة من السياسيين الذين قادوا حفل حزب Vox، أصيبوا أيضاً. وقد عزّز ذلك تساؤلات عمّا إذا كان كل هؤلاء المسؤولين قد ساهموا في انتشار الوباء، بدل الحد منه.
دخلت حالة الطوارئ حيّز التنفيذ، ولكن من غير الواضح إلى متى ستمتد، وما إذا كانت ستتمكّن من تقييد انتشار الوباء بالسرعة المطلوبة. وفي هذه الأثناء، تواجه الحكومة نوعاً آخر من التحديات يتمثّل في أنّ الرعاية الصحية تتوزّع إلى حدّ كبير في أيدي الإدارات المحلّية، بدلاً من تركّزها في يدها وحدها. أي أنّ النظام الصحي «مجزّأ بين 17 منطقة، وتحت سيطرة السياسيين الذين غالباً لا يرتدون ألوان الأحزاب نفسها»، على حدّ تعبير المسؤول في النقابة الصحية، هيرنانديز بوينتي، في حديث إلى صحيفة «نيويورك تايمز».
كلّ ذلك لا يلغي حقيقة أنّ تجربة إسبانيا أكدت، مرة أخرى، في أعقاب الأزمة في شمال إيطاليا ــــ حيث أدت الاستجابة البطيئة أمام انتشار الفيروس إلى إرباك نظام الرعاية الصحية ــــ على ضرورة أن تتخذ الحكومات إجراءات صارمة، في وقت مبكر، بهدف مكافحة انتشار الفيروس. وربما يحمل ذلك إنذاراً أخيراً للحكومات التي قاومت فرض إجراءات صارمة، قبل ارتفاع كبير في عدد الحالات.