هي أقدم الوسائل الإعلامية في التاريخ، لكنها لا تنفك تجدّد نفسها باستمرار لتواكب ــ بل تستفيد من ـــ ثورة الاتصالات في العصر الحديث. وإذا كان إطلاق الشائعة لا يعدو كونه مجرّد هواية غريبة لدى البعض، فإنه بالنسبة إلى كثيرين سلاح فعّال يروق لهم استخدامه في سبيل إسقاط الخصوم السياسيين أخلاقياً، فهل يمكن تخيّل حجم الشائعات في بلد تتجاور فيه 18 طائفة، وعشرات الأحزاب السياسية، ومجتمع مدني لا يقل تشظياً؟ والحقيقة أن تصنيف الشائعات زمنياً أمر صعب، فهي سلوك بشري مستمرّ لا تُعرف له بداية واضحة ولا نهاية قريبة، لكن يمكن الجزم أنها تزدهر في مواسم بعينها هي «مواسم الأزمات».
شكّلت الأحداث المتسارعة في لبنان بعد 17 تشرين الأول الفائت بيئةً خصبةً لنمو الشائعات وانتشارها. شائعات متنوعة طاول بعضها قيادة الجيش مرّة عبر الحديث عن خلافات بين ضباطه واتّجاه بعضهم لتقديم استقالاتهم على خلفية قرار بقمع التحركات الشعبية، ومرة عبر تأكيد عزل قائد الجيش من منصبه ووضعه في الإقامة الجبرية وتكليف مدير المخابرات القيام بمهامه بالإنابة. ولم يوفر بعضها الآخر رئيسَي الجمهورية ومجلس النواب من باب الحديث عن تدهور مزعوم في صحة كلّ منهما، فضلاً عن تحوير خطابات أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله واجتزاء عبارات منها وعزلها عن سياقاتها بغية وضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع، وصولاً إلى نشر لائحة تضمّ عشرات الأسماء من الرؤساء والوزراء والنواب الحاليين والسابقين قيل إن القاضية غادة عون في صدد الادّعاء عليهم بالتّهمة نفسها التي ادعت بموجبها على رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي. أما أخطر الشائعات وأكثرها إثارة للريبة، فهي تلك التي تمخّضت عنها ليلة شهدت إشكالَين محدودين في الشياح وبكفيا (ليل 26 – 27 ت2) من قبيل: انفجار قذيفة في حزرتا وسقوط ضحية! اشتباكات بين عشيرة آل جعفر وبين «حركة أمل» و«حزب الله» في البقاع وسقوط 4 ضحايا! قنبلة صوتية على أوتوستراد الشهيد هادي نصر لله في الضاحية الجنوبية!

(شادي غانم ــ الكويت)‎

مع تشكيل الحكومة، وعودة الهدوء، فقد الشارع شيئاً من زخمه، وخفّت وتيرة الشائعات نسبياً. لكن كورونا أطلّ أخيراً، فاستبشر صناع الشائعات خيراً. والتعبير هنا ليس مجازياً ولا من باب المبالغة، فمن «حسن حظهم» أن الإصابة الأولى التي سجّلت في لبنان جاءت من إيران، وأن وزير الصحة في الحكومة الحالية تمّت تسميته من قبل «حزب الله»... هكذا انطلق السباق مع خبر «كارتوني» عن صلاة جماعية تنظّمها إيران للمصابين في الساحات العامة، ثم عن تشخيص الحالة المصابة قبل مغادرتها الأراضي الإيرانية والسماح لها ـــ رغم ذلك ـــ بالسفر إلى لبنان بدلاً من معالجتها هناك، وعن اقتصار إجراءات وزارة الصحة على سؤال ركاب الطائرة الإيرانية عما يشعرون به. ثم تطورت الشائعات في الأيام اللاحقة لتزعم إفراغ «حزب الله» مستشفى «الرسول الأعظم» من المرضى العاديين بشكل كامل لتخصيص طبقتين من طبقاته لضباط وعناصر الحرس الثوري والطبقة الثالثة لعناصر «حزب الله» من المصابين بالكورونا. وكان لافتاً الانتشار الذي حصدته صورة وزير الثقافة اللبناني عباس مرتضى في مطار بيروت مع عدد من مرافقيه (وبعضهم يرتدي بزات عائدة لأجهزة رسمية لبنانية) مرفقة بتعليق «عناصر من حزب الله تقتحم مطار رفيق الحريري لاستقبال الطائرة الإيرانية ومنع إجراء أيّ فحوصات لركابها» مع هاشتاغ #حزب_الله_يقتلنا.
لعل استهلاك كل الشائعات الممكنة في وقت قصير نسبياً، هو ما دفع الماكينة نفسها إلى استحضار شائعة منتهية الصلاحية منذ آب (أغسطس) الماضي، تتعلّق بمقطع فيديو يُظهر شاباً يخرج من طائرته الخاصة مرتدياً معطف الحمام قبل أن يظهر مجدّداً بصحبة فتيات يرتدين ثياب السباحة. كاتب الخبر يستدلّ بصورتَين تجمعان الشاب مع كلّ من الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد ووزير الخارجية محمد جواد ظريف للزعم أنه نجل الأخير، والقول بأن «حزب الله» يعرّض بلده ومجتمعه لأخطار مختلفة كرمى لعيون الإيرانيين، في حين ينصرف هؤلاء إلى ملذاتهم! علماً أن قليلاً من التدقيق يكفي للعثور على تكذيب عمره سبعة أشهر يوضح أن الظاهر في الصورة هو محمد رضا سبحاني المعروف بـ «ساشا»، وهو نجل السفير الإيراني السابق في المكسيك أحمد سبحاني الذي تبرأ منه بعد نشره تسجيلاً مصوراً يهاجم فيه كل من ينتقد نمط حياته.

«اعزل نفسك» من الحملات التوعوية حول الفيروس

على أنه لا بدّ من الإقرار بأن هذه الشائعات الموجهة في اتّجاه محدَّد قوبلت بشائعات «دفاعيَّة» ولو بشكل خجول، منها تسجيل صوتيّ يؤكّد وصول لقاحٍ مضاد للكورونا من إيران إلى «مستشفى رفيق الحريري الحكومي» عن طريق وفد من «مستشفى الرسول الأعظم» واستجابة إحدى الحالات للقاح وتماثلها للشفاء بشكل سريع، مع صورة للقاح المفترض يظهر عليه اسم الشركة المصنّعة «سايها». بحث سريع عن الاسم يقودنا إلى معرفة أن الشركة العائدة للدكتور برويز نوري صايحة (سايها) متخصّصة في تصنيع الأدوية العشبية والمراهم والكريمات العلاجية حصراً. كما أن عبوة اللقاح نفسها مكتوب عليها 100% عشبي، إذ تشير المعلومات إلى أن السلطات المختصة في إيران التي تعكف فعلاً من خلال عدد من الباحثين والأطباء والعلماء على محاولة إنتاج لقاح مماثل من دون أن تصل هذه الجهود إلى خاتمتها المنتظرة بعد، لم توافق على المنتج العشبي المذكور.
أحدث الشائعات أطلقتها ماريا معلوف التي تكاد تكون متخصّصة في بثّ الشائعات حول شخص السيد حسن نصر الله والتحريض عليه. زعمت هذه المرة إصابته بالفيروس، وتناقلت الخبر المزعوم وسائل إعلامية عربية كثيرة تكنّ العداء للرجل وتحتفي عادة بأيّ خبر مماثل من دون أن تُخضعه للتدقيق.
والشائعات المرتبطة بالكورونا ليست ظاهرة لبنانية فحسب. ففي الحديث عن أصل نشوء المرض وحكاية تطوره وانتشاره روايات لا تُحصى، بعضها قابل للتصديق لكنه يفتقر إلى أدلة ملموسة، وبعضها يراوح بين قصص الخيال العلمي وأفلام الأكشن. آخر هذه الروايات ما انتشر في اليومين الأخيرين تحت عنوان «فعلتها الصين»، وفيه أن كورونا ليس سوى تكتيك اقتصادي استخدمته القيادة الصينية للتخلّص من المستثمرين الأوروبيين في معامل التكنولوجيا والكيماويات، فضحَّت ببضع مئات من مواطنيها لصالح شعب بأكمله، ونجحت في خداع الجميع وفي تجاوز الاقتصاد الأميركي بعد شراء أسهم الأوروبيين بأثمان زهيدة.
الشائعات المرتبطة بالكورونا ليست ظاهرة لبنانية


ما تقدّم ليس سوى عينة صغيرة من الشائعات التي طبعت الأيام الماضية، والغاية ليست أرشفتها وإحصاءها بقدر ما هي محاولة للتحذير مما ينتظرنا منها في الأيام القادمة، وما تخلّفه من تعزيز لحالة الهلع وتحريض اللبنانيين على بعضهم وإلهائهم بالصراعات السياسية عن المعركة الأساسية التي ينبغي أن يتجنّد لها الجميع وتتوحّد في سبيلها الجهود والطاقات.
في واحد من الإعلانات التوعوية حول سبل الوقاية من كورونا وأهمية التزام الأفراد بالبقاء في منازلهم في هذه الفترة بعنوان «اعزل نفسك»، نشاهد صفاً من أعواد الكبريت تشتعل رؤوسها تباعاً بفعل تلاصقها، إلى أن يقرر أحدها الابتعاد قليلاً واضعاً حدّاً لتلك السلسلة الجهنمية. هذا المفهوم في مواجهة كورونا يتلاقى كثيراً مع «هاشتاغ» أطلقه ناشطون في مواجهة الشائعات العام الماضي وهو #خليها_توقف_عندك. مع التلازم بين انتشار الفيروس والشائعات، يبدو تفعيل الهاشتاغ ضرورياً، فهل يدرك اللبناني حجم المخاطر ويملك الوعي الكافي لوقف دورة الكورونا والشائعات المغرضة عنده، أم أن سياسة الاستهتار و«النسخ واللصق» ستبقى سائدةً لنشهد المزيد من الإصابات، ومن الشائعات؟