استقبل رئيس الجمهورية ميشال عون، أخيراً، رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية بعد شهرين على بداية الإضراب، وبعد أسبوعين على توقيفه، وعلى إعلان البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية الدولية اهتمامهما بقضايا الجامعة. كما جاء اللقاء بعد أسبوع على تعيين مدير في كلية الحقوق خارج الأصول القانونية التي تفرضها أنظمة الجامعة. رئيس الجمهورية أبلغ الرابطة أن الوضع الاقتصادي في لبنان يحول دون تحسين وضع الجامعة.بين المعايير الدولية والأداء المحلي تجاذب العاشقين وتنافر الخائنين. فمع التوجهات الدولية الحديثة في إدارة المرافق الحيوية، يظهر مؤتمر اليونيسكو للتعليم العالي وإعلان اليونيسكو للحريات الأكاديمية كنصوص أساسية تسعى من خلالهما المنظمة الدولية لتكريس الإدارة الرشيدة للجامعات الرسمية بهدف المحافظة على جودة التعليم وعدالته أمام الفئات الاجتماعية المختلفة، ضمن جو من الحرية في الفكر والتعليم والبحث العلمي، تسوده الشفافية والنزاهة والمحاسبة وتطبيق حكم القانون.
يشكل «حكم القانون» المعيار الأساس لتطبيق هذه التوجهات وضمان عدالة التعليم. هذه التوجهات المبنية على صحة تمثيل الفئات المختلفة المعنية بمرفق التعليم العالي، المحتكر وفقاً للمنظومة التوافقية اللبنانية من الأحزاب الطائفية الممسكة بالحكم منذ اتفاق الطائف، والتي تبلورت بالتعميم رقم 2/2017. وقد أصدر رئيس الجامعة هذا التعميم للمحافظة على «الميثاقية» في المراكز الأكاديمية. يتجلى دور حراك الجامعة في هذا السياق بظهور نسبة كبيرة من أساتذة الجامعة وطلابها غير الموافقين على الآلية التي بموجبها تدار الجامعة اللبنانية.
لا ينفصل «حكم القانون» عن «ثقافة القانون» وهو المتمثل بلغة مشتركة عامة لدى مختلف مكونات الشعب، حيث يصدر القانون الفاعل في المجتمع مكوناته بما يضمن التفاعل الإيجابي بين النص والممارسة التي لا يفترض أن تنحصر بنصوص شكلية خاوية على قياس أحزاب وطوائف. وتبدأ الثقافة بممارسة الشخصيات الاجتماعية بحيث تتحول إلى نموذج يحتذى به من المكونات الاجتماعية المختلفة: سياسيين وإعلاميين ورجال دين وموظفين رفسعي الرتبة وأساتذة جامعات.
سلوك الوزراء خلال فترة الإضراب ابتعد كل البعد عن الإطار القانوني والحقوقي والمواطني. فكان موقف «القيادات الوزارية» على اختلاف انتماءاتهم الحزبية - الطائفية، ممنهجاً ومتناغماً. وقد اعتبروا بأدائهم الاساتذةَ جماعةً يقودونها بعيداً عن أي خطاب مؤسساتي. وسمحوا لأنفسهم بتخطي الخطاب الحقوقي واستخدام القانون خارج سياقه، متناسين أننا لم نعد في بداية القرن العشرين حين وضعت النصوص التي استخدموها في ظل الدولة البوليسية. فقد أتت بعدها كل الشرعات الدولية لحقوق الإنسان والحريات الأكاديمية، المصادق عليها من الدولة اللبنانية، بما يسقط البعد البوليسي لأداء السلطة الحاكمة، ويسقط عن الجامعات في حال ممارستها أي قيمة علمية عالمية عند ابتعاد ممارستها عن معايير الحريات والجودة. وما زاد الأمر فداحة تعاميم غامضة من رئيس الجامعة الموكل إليه أصلا حماية المؤسسة وأهلها، تحتمل معاني تهديدية ضمنية لن يثنيه عن ممارستها ضابط عند إعلان الضوء الأخضر من أصحاب القرار.
كما احتكر ممثلو أحزاب السلطة في الجامعة صلاحية تفسير القانون «على القطعة»، متناسين أن القانون يفسر بما يعطي النصوص معاني فاعلة وتخدم الغاية التي من أجلها وضع هذا النص، سواء كان نصاً مرتبطاً بقانون غير واضح لتنظيم الأداء الأكاديمي أو تنظيماً داخلياً للرابطة بما يخدم وحدة العمل النقابي. واستخدم الأساتذة المعنيون بالشأن القانوني - وليس الحقوقي - ثقافتهم بالاستخفاف بمحيطهم والاستقواء بموقعهم الحزبي، بتوجيه الاتهامات والتهويل على كل من خالفهم الرأي، وإن كان مختصاً بالقانون. وقد نسي هؤلاء «الفقهاء» أن ثقافة القانون لا تظهر فجأة، إنما هي مسار متكامل من التعامل مع دولة القانون والمؤسسات بما يجعل دور مؤسسات الدولة تخدم مصلحة المواطن وترفع من شأنه من دون اعتبار الدولة بأنظمتها خدمة لفئات طائفية. وتجاهل هؤلاء المعيّنون في مراكزهم الحزبية والأكاديمية أن القانون في دولة المؤسسات لا ينحصر بحبر على ورق بحثاً عن اعتراف دولي، إنما يفترض أن يقترن بممارسة تنعكس في بيئتهم الاجتماعية كما المؤسساتية الجامعية، وتحترم معنى دولة القانون وحكم القانون وثقافة القانون. إن الممارسة المعتمدة تشكل دليلاً صارخاً على الابتعاد عن تلك الممارسة، ليس أولها عدم الالتزام بقانون التفرغ أو تعيين مدراء بقرار «الباب العالي» خارج الأصول القانونية، ولا تنتهي مع لجان «علمية» محترمة معيار الطائفية والحزبية بعيداً عن معيار الاختصاص في الكثير من المرات، وعن استخدام المركز الإداري مهما علا شأنه على قياس توازن مصالح ضيقة بعيداً عن عدالة القاعدة. فالقانون المطبّق شرط أساسي، ولكن التطبيق الشامل على جميع المعنيين هو الشرط الضروري لدولة القانون. والحق المكرس هو ايضاً معيار أساسي، ولكن الاعتراف للجميع بحقوقهم هو الشرط الضروري للعدالة ولحكم القانون. والقرارات القضائية السريعة أمر ضروري، لكن تفعيل العمل القضائي لمصلحة كل المواطنين يبقى المفتاح الوحيد لضمان عدالة القانون.
فدولة، الدستور فيها محال إلى هامش الحياة السياسية، والتعيينات القضائية مرتبطة بمحاصصة توافقية، واستقلال القضاء مرهون بمبلغ مالي معترف به من السلطة السياسية، والإدارات العامة والبلديات ترفض تطبيق قرارات مجلس الشورى، ويجري فيها ابتداع ممارسات جديدة تحت ستار «العرف القانوني»... وغيرها من الممارسات بحجة وطن لم يبق منه إلا الاسم والنشيد، هي دولة لا تعكس بأي شكل حكماً للقانون.
أما في الجامعة اللبنانية ورابطة أساتذتها، فقد أظهر الحراك الأخير حاجة جموع الأساتذة لفهم القانون وآلية تطبيقه وكيفية تفسيره، عندما تكون النصوص غامضة أو القرارات والتعاميم مفاجئة ومخالفة للنصوص الأعلى، ولأهمية وجود سلطة قضائية ضامنة لحقوق المواطن. ذلك، بسبب شعورهم بأهمية القانون وأبعاده وارتباطه المباشر بمصيرهم عندما تستخدمه السلطة للحكم بالقانون بدل اعتماد حكم القانون. هذه النقاشات التي لم تستثنِ مختصاً أو غير مختص، شكلت ظاهرة مهمة ومؤسسة لمرحلة فكرية جديدة في الخطاب داخل الجامعة. وظهرت بشكل واضح في النقاشات الإشكالية المتعلقة بمعنى الشرعية وأثرها على سلطة القرار. وهذا ما يعيدنا إلى السؤال عن مكان الآلية المعتمدة في إدارة شؤون الجامعة عن المعايير المعتمدة عالمياً.
أما الاساتذة الحزبيون، فقد تماهى خطابهم مع خطاب قياداتهم الفوقية والتهكمية والتهويلية، إذ كانت لديهم جسارة التهجم على الأساتذة، ولم يرتقوا إلى مستوى شهامة الاعتذار. علماً ثقافة القانون لا يمكن أن تنفصل عن ثقافة الأخلاق والقيم العليا الاجتماعية.
* استاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية