ربما لا ضرورة لإعادة تفنيد فصول مسرحية «كلّنا عالجامعة... كلّنا عالوطن»، أمام المعنيّين بقضية الجامعة الوحيدة التي تُقدِّم التعليم العالي، بشكلٍ شبه مجّاني، لكلّ طلاب لبنان على اختلاف هوياتهم. لكنّ هناك ضرورةً قصوى لإعادة تسليط الضوء على أبرز أسباب هذا الحقد الموصوف الذي تُكنُّه السلطة للجامعة الوطنية، وهذا الجهد المضني لمنع تطوّرها، وهذا السعي الحثيث لتهميشها، وهذا القلب القوي للتجرُّؤ على شخصها المعنوي، وهذا النَفَس الطويل لوضع المخطّطات للالتفاف عليها وخنقها، رويداً رويداً، كي تموت موتاً سريريّاً لا يُفجِع أحداً.من حقّ جامعتنا علينا، ومن حقّ أبناء هذا الوطن علينا، أخلاقياً، أن نُعرِّف مَنْ لا يعرف من حكّامنا، على دوافع جعْلنا «الجامعة اللبنانية الرمز» قضيةً مركزية نُصرُّ على فتْح ملفها كلّ بضع سنوات، أي كلّما لاحت في الأفق محاولة جديدة للتعرّض لها! فبعض حكّامنا يجهلون (كما يصرّحون بسذاجة الغافل ووقاحة الجاني) أسباب هذه «الهمروجة المطلبية» القائمة في الشارع والإعلام، حول «بضعة مطالب يرفعها بضعة أساتذة في إحدى جامعات البلد»! هم يستهجنون، مثل كثيرين في هذا الوطن وخارجه، كلاماً لأساتذة وطلاب وصحافيّين ومثقّفين ونقابيّين ومناضلين في شتى الميادين، يشير بالبَنَان إلى علاماتٍ تدلّل إلى مؤامرةٍ مزمنة، موثَّقة خيوطها ومستمرّة فصولها، ضدّ الجامعة اللبنانية. وقد نجحوا، وهذا يُسجَّل لدهائهم، في جعْل قضية الجامعة وكلّ قطاع التعليم والتربية، مسألةً هامشية، لا وقت أو مجال أو حاجة لطرحها في مجتمعنا الغارق في أزماتٍ متوالدة.
لم يوقن كثير من اللبنانيّين حتى اللحظة (وربما كان مفهوماً لماذا)، أنّ حكّامهم الأشاوس الذين أوصلوهم إلى المقاعد المتربّعين عليها الآن، إنّما يعملون، ليلَ نهار، كي يحرموا أبناء هذا الشعب من تحصيل التعليم العالي المرموق، مثلهم مثل أولادهم تماماً! لم يوقن كثير من اللبنانيّين حتى اللحظة، الحدّ الذي وصل إليه حكّامنا في مخطّطهم لضرب القطاع العام، وكلّ مؤسّساته المنتِجة والقادرة على إفادة المصلحة العامة، والجامعة اللبنانية رأسُ حربة هذه المؤسّسات. لم يوقن كثير من اللبنانيّين حتى اللحظة، كم إنّ الربّ أغدق على أرباب هذه السلطة، قدرةً على الكذب وارتكاب الموبقات واستخدام شتّى صنوف السلاح المحرَّم أخلاقياً وقلب الحقائق لمصلحتهم، دائماً وأبداً، بدعمِ وبمساعدةِ وبمباركةِ ضحاياهم من المواطنين. لم يوقن كثير من اللبنانيّين حتى اللحظة، مدى جسارة هذه السلطة على الصمود في مواقعها المتقدِّمة، بينما الشعب يهجوها، صبحاً ومساءً، بأقبح الألفاظ والتعابير، من دون أن يرفّ لها جفن حياء.
ورُبَّ سائلٍ: كيف يمكن لأركان الدولة أن يكونوا ضدّ الجامعة الوطنية التي من المفترض أن تحميها سياساتهم ومشاريعهم؟ وهل الدولة ضدّ مؤسّسات الدولة؟! تساؤل ثانٍ: كيف يمكن أن تكون السلطة متحاملةً على الجامعة، ونحن نراها مستميتةً في إيصال أتباعها المحظيّين (طبعاً) إلى عقر دارها؟ هذا يشبه «المخمَّس مردود» (بلغة الزجل)، ولكنّ فيه بيتَ القصيد. فهذه الإستماتة «السلطوية» لدخول الصرح الجامعي الوطني (مع رغبة دفينة في تقويضه)، هي ما يُسمّى بلغة الأمن «عملية اختراق» لتوظيف مهارات الوافدين، عند الحاجة، للقيام بما يُسمّى بلغة العسكر «عملية استطلاع بالنار». فهؤلاء الداخلون، هم عيون السلطة وأذرعها الضاربة حين توعز إليهم بأنْ «أشعلوا الجبهات». فيفعلون. ما شهدناه منذ أكثر من سبعة أسابيع على إضراب أساتذة الجامعة (والذي انضمّ إليه قسم كبير من الطلاب)، كان، في الحقيقة، جولة معارك، ظهّرت فيها السلطة وعوداً معسولة للعلن (بعد إهمال وازدراء لأهل الجامعة يندى لهما الجبين)، ابتلعت فيها المطالب المزمنة والمتراكمة والمُتَجَاهلة من قِبَل الحكومات المتعاقبة. وجولة المعارك هذه، إنّما بدأت وتدور على جبهتيْن: الأولى، رفْض حاد وقاطع لكلّ مطلبٍ رفعه أساتذة الجامعة وطلابها (ليس اليوم بل منذ عقود)، ولكن عبر تمويه هذا الرفض بحُسْن التلاعب بالكلام، وإتقان إخفاء المضمونِ بالشكل، كون جمال الشكل ضرورياً ومطلوباً لإخفاء القبح في المضمون (ويقود غرفة العمليات على هذه الجبهة، عددٌ من جماعة السلطة)؛ أمّا الجبهة الثانية فدَورها تحطيم صورة الجامعة وكسْر هيبتها وعنفوانها عبر: حملة تشويه ممنهجة لسمعة أساتذتها (يتولاّها بعض الحكّام من خلال تصريحاتٍ وتغريدات تنطوي على ترهيبٍ مقنّع يخرج من أفواههم على شكل هجومٍ وذمّ لهؤلاء الأساتذة «العديمي الضمير والمسؤولية»)؛ وحملة شتائم وشائعات ولعِبٍ على وتر «البحبوحة» المالية التي يعيش أساتذة الجامعة في نعيمها، بينما الطلاب من أبناء الناس المحرومين يهيمون في الشوارع لا يلوون على شهادةٍ أو فرصة عمل (يتولاّها طلاب مأمورون من غرفة العمليات المشار إليها أعلاه)؛ وحملة تعتيم على كلّ موقف لأستاذ أو طالبٍ يدعم وينظِّر ضدّ «سياسة السلطة التربوية» من خلال زرع فيروسات في الفيديوهات التي كانت تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي (ويتولّاها بشكلٍ أساسي بعض الحكّام وأزلامهم وطلاب أحزاب السلطة). ماذا بعد؟
رفض قاطع لكلّ مطلب للأساتذة وحملة تشويه ممنهجة لسمعتهم


معاناة الجامعة اللبنانية اليوم هي نفسها لم تتغيّر، إذْ إنّها بدأت مذْ ارتفعت مداميكها، رغماً عن أنف السلطة الحاكمة، كون نشأتها الوطنية حدّدت للشعب دورها التحرّري كأفق لتطوّرها التاريخي. ثمّ إن الكتلة البشرية التي أخذت الجامعة تضمّها وتتّسع باتّساعها، لعبت، بحكم انتمائها الاجتماعي، دوراً هامّاً في دفع الجامعة إلى القيام بهذا الدور التحرّري الذي تبذل السلطة الحاكمة جهدها للقضاء عليه. كيف تجلّت هذه المحاولات بعد حقبة الطائف؟ منذ تسعينيات القرن الماضي، صوّبت السلطة سلاحها على الجامعة الوطنية، بأنْ جعلت أشباحها تطغى على هذا الصرح الوطني بكلّ مكوِّناته وتعيث فيه فساداً، بدءًا بمحاولة ضرب الجسم النقابي للأساتذة عبر تشتيته أو تدجينه (أي كما حصل مع كلّ النقابات في البلد). ثمّ استؤنف التآمر، بوضوح أكبر، إلى حدّ إخضاع صلاحيات مجلس الجامعة (في العام 1997) لقرار المحاصصة السياسية والطائفية، وإفقاد الجامعة، بالتالي، الاستقلالية التنظيمية والإدارية والمالية بالكامل، وأُعطيتْ كلمة السرّ ومفادها «أريحونا من عبء هذه الجامعة». وهكذا، أُعطي الضوء الأخضر لأحزاب السلطة المتمثِّلة في الهيئة التنفيذية لـ«رابطة الأساتذة المتفرغين» وفي سائر الهيئات النقابية، للقيام بمهمّةٍ ثلاثية تساهم في إزالة هذا العبء (يوماً ما) وتتلخّص بالآتي: أولاً، محاولة خنق الجامعة عبر إمساك الأحزاب بكلّ ملفاتها والبتّ فيها، بدءًا من «دوزنة» ملفات تفرّغ الأساتذة، مروراً بتعيين العمداء وفق فحص DNA للتأكّد من صفْوَتهم الطائفية، وصولاً إلى المدرّبين والموظّفين والصيانة والمناقصات...إلخ؛ وثانياً، وفي حال الفشل في هذه المهمّة، محاولة لجم تطوّر الجامعة من خلال أمور كثيرة (متّصلة بإجراءات المهمّة الأولى)، مثل عصْر موازنتها إلى أقصى حدّ، والسهر على إبقائها مشتَّتة في أبنية مهترئة، وعدم السماح بقيام مجمّعاتٍ لائقة ومناسبة لطلابها، وضرْب استقرار أساتذتها عبر زعزعة أمنهم الاجتماعي، ومنعهم من اقتراح أيّ مشروع يمكن أن يعزّز موارد الجامعة وصندوقهم التعاضدي، وحجْب الدفع والإنفاق على البحث العلمي، وعرقلة إدخال أيّ اختصاصاتٍ مهمّة ومطلوبة في سوق العمل (بخاصّة إذا كانت غير موجودة في الجامعات الخاصّة)؛ وثالثاً، وبحال فرضتْ الحركة الطلابية والحركة الشعبية تطوير الجامعة اللبنانية وتوسيعها، محاولة جعل هذا التطوّر مشوَّهاً، ولا سيما عبر منع فتح الفروع التطبيقية للكليات.
كلمة أخيرة. العبء الأهمّ الذي تخلقه الجامعة للسلطة الحاكمة، هو اضطرار هذه الأخيرة الدائم للتفكير والتمحيص والتدقيق، في كيفية الحدّ من الخطر المتمثّل في تعليم الأجيال الطالعة من أبناء الطبقات الكادحة تعليماً عالياً يوازي ذاك الذي يتلقّاه (إن لم يكن أفضل) أبناء جماعة السلطة المسيطرة على مقدّرات البلاد. فهذه الجماعة خائفة أيّها الناس فاعذروها (وهذا ما لا يمكن أن تُفصِح عنه). خائفة من رفض الحركة الطلابية لسيطرتها ونبْذها للنظام الاجتماعي، ككلّ، والقائم، في أساسه، على ضرورة التمييز الطبقي بين شباب الأجيال الطالعة. تمييزٌ قائم على دعامةِ المقولة الشهيرة المنسوبة الى المغفور له أحمد بك الأسعد، إذْ يتوجّه حكّامنا لطلابنا يطمئنونهم: «شو بدكم بالجامعة. ما نحنا عم نعلملكم ولادنا». إقتضى التشبيه.

* أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية.