يذهب لبنان إلى مؤتمر باريس 4 حاملاً سلة من المشاريع تصل قيمتها إلى 17 مليار دولار. رقم كبير فتح شهية السياسيين على المطالبة بحصص لمناطقهم من الإنماء، فشرع هؤلاء بالتفتيش في دفاترهم العتيقة عن وعود إنجازات لتقديمها للناخبين. سد العاصي الذي توقف العمل فيه قبل 12 عاماً، عاد إلى التداول من باب الانتخابات، واستكمال تنفيذه بات شعاراً يرفعه كل الطامحين للوصول الى البرلمان من أبناء البقاع الشمالي. لكن، هل تحتاج المنطقة إلى سد فعلاً لتحقيق التنمية فيها؟تستدعي عملية التنمية، في كل مناطق الأطراف من دون استثناء، خططاً فعلية لتحفيز النمو وتوجيه الاستثمار، أكثر مما تستلزم مشاريع انتقائية من هنا وهناك يتم رميها في وجه الناخبين في المناسبات. وإلا كيف يمكن تفسير استفاقة المعنيين أخيراً على مشروع سد العاصي، في منطقة البقاع الشمالي، المتوقف عن العمل منذ عام 2007؟ وهل يحقق السد العتيد، فعلاً، الآمال الوردية المضخّمة التي يعلّقها أهالي هذه المنطقة عليه؟
للإجابة عن سؤال حول مدى جدية الحاجة إلى إقامة سد على نهر العاصي، يمكن مقاربة الأمر من جهتين: الأولى تتبع المسار التاريخي لفكرة السد، والثانية تتبع عمل الإدارات المركزية ورؤيتها حول هذا السد (والسدود عموماً) وطريقة مقاربتها لموضوع المياه الحساس جداً في لبنان.

اين دراسة الجدوى؟
التدقيق في مراحل تطور العمل في هذا السد الذي بدأ الحديث عنه منذ أكثر من ستين عاماً يوجب التوقف عند أسئلة مفصلية منها: لو كان السد حيوياً بالفعل في عملية التنمية في المنطقة، هل كان يتطلب تنفيذه كل هذا الوقت؟ وهل كانت «دار الهندسة» أعادت أعمال الدراسة فيما لو كانت مساحة الأراضي القابلة للزراعة موجودة بالفعل كما هو معلن عنها؟ وهل كانت القوى المحلية وفعاليات المجتمع المحلي غضت الطرف عن المطالبة الحثيثة بإقامة السد طوال هذه الفترة لو كان بإمكانه بالفعل إحداث تغيير حقيقي في إنماء المنطقة؟ وكيف يمكن تفسير أن المشروع ليست له دراسة جدوى اقتصادية معلنة؟ ولا دراسة أثر بيئي له أصلاً؟
مشاكل حقيقية في عملية الإعداد المسبق لإنشاء السد وجدواه الفعلية


والأكثر إثارة للشكوك أنه بالتزامن مع بدء العمل في السد، عام 2003، كانت «دار الهندسة» لا تزال تجري دراساتها على مساحة الأراضي الزراعية المفترض ريها، وعلى كمية المياه المفترض تخزينها، وعلى موقع معمل الكهرباء المفترض وجوده، الأمر الذي يشي بوجود مشاكل حقيقية في عملية الإعداد المسبق لإنشاء السد وجدواه الفعلية.

البرك الجبلية
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2008، أجرى أحد الخبراء المائيين دراسة أولية طالت خصائص منطقة البقاع الشمالي، وخلص بنتيجتها إلى عدم الحاجة لإقامة سد بالمواصفات المطروحة، بل أكّد الحاجة الى إقامة سدين تحويليين صغيرين، الأول عند نبع الزرقا والثاني شمال مزرعة بيت الطشم، لتجميع نحو 13 مليون متر مكعب، من المياه بما يخدم احتياجات الري والشفة في أشهر الجفاف الأربعة الغالبة: نيسان، أيار، حزيران وأيلول، بما يساعد على نقل المياه بالجاذبية لا بالضخ، وذلك لضرورة خفض التكاليف على المزارعين إلى الحد الأدنى. وأكّدت الدراسة أنه يمكن إضافة حلول لتوفير خدمات مستدامة لأهالي المنطقة يعتمد أبرزها على إقامة برك جبلية أو البحيرات الصغيرة، وهي حلول بتكاليف محدودة في الإنشاء والصيانة والإدارة، فضلاً عن أهميتها في تحسين البيئة المناخية العامة في المناطق ذات الطبيعة الصحراوية.

باريس 4
عودة إلى باريس 4، فقد أظهرت جملة المشاريع المقترحة أن تنفيذ مشروع سد العاصي سيؤجل إلى مرحلة ثانية (المرحلة الأولى مخصصة لمشاريع يُفترض أنها قيد التنفيذ حالياً أو قيد التحضير لكنها تحتاج إلى تمويل). وهكذا يبدو مجدداً أن هذا المشروع ليس من أولويات الحكومة، وربما يعود السبب إلى الإهمال التاريخي المتعمّد لمناطق الأطراف، أو إلى غياب رؤية فعلية تتعلق بالحفاظ على الموارد وحمايتها وأهمها المياه، وإلا كيف يمكن تفسير قبول أن تكون حصة لبنان من النهر 80 مليون متر مكعب وفق المعاهدة اللبنانية ـــ السورية؟

ما جدوى إقامة سد لن يُنتفع منه في الزراعة أو التصنيع أو غيرهما؟


الصناعة والزراعة والإنتاج الحيواني والتنمية الريفية والري والبيئة قطاعات ليس لها تمويل على الإطلاق في المشاريع المقترحة في باريس 4، ما يدعو الى التساؤل عن جدوى إقامة سد لن يُنتفع من ناتج مياهه في الزراعة أو في التصنيع أو في غيرها من القطاعات... إلا إذا كانت إقامة المشروع هدفاً بحد ذاته!
في باريس 4 لا استثمارات مخصصة لتنفيذ مشروع شبكات للصرف الصحي أو لمحطة لمعالجة المياه المبتذلة ولا لمحطة لتنقية مياه الشفة، ما يعني أننا سنكرر تجربة جر مياه ملوثة لاستخدامها كمياه للشفة وفي الزراعة كما هو متوقع مع مشروع الليطاني، وهذا يعني أيضاً أننا سننقل التلوث المحصور حالياً في محيط النهر إلى منطقة البقاع الشمالي بأكملها. فهل تستحق الانتخابات أن نجرب المجرّب؟



التخزين الجوفي أفضل من السدود السطحية
بغض النظر عن وضعية نهر العاصي، تعتبر طريقة التخزين الجوفي أفضل بما لا يقاس من إنشاء السدود فوق سطح الأرض كما هو مقترح من قبل وزارة الطاقة والمياه، للأسباب التالية:
طبيعة لبنان لا تشجع على التخزين السطحي كون غالبية الوديان في لبنان ضيقة وتحتاج الى إنتاج سدود عالية. كما أن كلفة التخزين الجوفي لا تقاس بالكلفة العالية جدا لبناء السدود السطحية. إذ تقدّر بعض الدراسات كلفة التخزين السطحي بأكثر من 25 دولاراً للمتر المكعب من دون احتساب الاستملاكات.
التخزين الجوفي لا يتطلب استملاكات للأراضي (وفتح مشاكل مع المالكين كما يحصل الآن) ولا تخريب المناطق (سواء أكانت حرجية ام زراعية ام حتى جردية) ولا لنظمها الايكولوجية أثناء الإنشاء. ولا تخرب مناطق اخرى من نقل ورمي ردمياتها. كما لا تتطلب بناء الجدران المفترض ان تكون مدعمة ومقاومة للزلازل.

للسدود السطحية فترة حياة محددة، ان لناحية تشغيل معدات المشروع او لناحية انخفاض سعة التخزين مع الوقت بسبب الترسبات في حوض السد، او لناحية انهيار المواد التي يتم حقن الارض بها لعدم التسريب. كما أن طبقات الارض في لبنان لا تتلاءم مع اسلوب التخزين السطحي، الذي يحتاج الى حقن تشققات الارض بالباطون او بمواد اخرى بكميات كبيرة ومكلفة جدا لوقف التسرب الحتمي!
في التخزين الجوفي لا يحصل تبخر كما هي الحال مع التخزين السطحي. كما انه يساهم في تصفية المياه، بينما يزيد التخزين السطحي من تلوثها ما يحتم ايجاد محطات تكرير قريبة من السد لمعالجة المياه كما يحصل في شبروح... ما يتطلب كلفة إضافية لإنشاء المحطات وتشغيلها وصيانتها... لترسل في النهاية المياه «المعالجة» للناس وليس الطبيعية!
السدود السطحية تشكل خطرا على الطبيعة لناحية تغيير النظم الايكولوجية وتغير المناخ. ولا يمكن لأحد في العالم تقدير مخاطر تغيير النظم الايكولوجية وتحويل المناطق من جافة صيفا الى رطبة بسبب السدود المكشوفة وتجميع المياه، لجهة أنواع الامراض التي يمكن ان يتسبب بها تغيير النظام الايكولوجي على الحيوان والنباتات والانسان ولا الكلفة الصحية التي ستنجم عن معالجة تلك الامراض المستجدة.
انشاء سدود مكشوفة في بلد غير مستقر كلبنان، ولديه اعداء طامعون بمياهه، وتجارب في استهداف عدوه لبناه التحتية، يجعل السدود أهدافا سهلة لعدوه.


محطات مفصلية
عام 1953 منح مجلس النواب امتيازاً حصرياً ــــ لا يزال ساري المفعول ــــ لجورج نمر بعاصيري للقيام بمشاريع لتوليد الطاقة من العاصي واليمونة.
بين 1958 و1959، أعدّ معهد الأبحاث الزراعية في تل عمارة في رياق، بالتعاون مع خبراء فرنسيين من بعثة الشرق الأوسط للزراعة، دراسة حول التربة في منطقة نهر العاصي.
عام 1986، أعدت شركة «دار الهندسة» دراسة أولية للسدّ جاء بنتيجتها: بحيرة تجمع 110 ملايين متر مكعب وري 6000 هكتار من الأراضي القابلة للزراعة.
في 27/11/2002 وافق المجلس الأعلى السوري ــــ اللبناني على إقامة سد لتقاسم المياه المتدفقة من النهر، وقرر أن حصة لبنان من المياه 80 مليون متر مكعب، ووافق على إقامة سد وبحيرة لجمع المياه بقدرة تخزينية تتراوح بين 30 و37 مليون متر مكعب.
أعدّت «دار الهندسة»، عام 2003 ، مجدداً دراسة أخرى تلحظ حصة لبنان من اتفاق توزع حصص المياه، وتخلص إلى إقامة ثلاثة سدود: تحويلي (بارتفاع يصل حتى 60 متراً) وتخزيني وتنظيمي. قُدرت كلفة المشروع عام 2005 بحوالى 300 مليون دولار، ولُزّم تنفيذ أعمال المرحلة الأولى إلى تجمع شركتي CWE الصينية و«حطاب إخوان للهندسة والمقاولات».
كان يُؤمل تدشين المرحلة الأولى من السد عام 2008، إلا أن مشاكل الاستملاكات أعاقت عملية الانطلاق.
في تموز 2006 أغار طيران العدو الإسرائيلي على موقع العمل ما أدى إلى تدمير قسم من تجهيزات الشركة التي طالبت بتعويضات، لكن المفاوضات مع الدولة وصلت إلى نتيجة واحدة: توقّف الأعمال نهائياً.
اعتباراً من 2007، تضاعف عدد المطاعم والاستراحات الموجودة على ضفاف النهر مع علم أصحابها بوجود مشروع السد، في غياب أيّ نوع من الخطط التنموية المطلوبة للمنطقة.