«من المرجح أن لبنان يتجه نحو أزمة مالية خطرة ستتخذ شكل انخفاض في قيمة العملة الوطنية، والأخطر من ذلك أنها ستؤدي إلى زعزعة استقرار القطاع المصرفي». هذا ما تتوقعه ورقة متخصصة تحت عنوان: «الأزمة المالية في لبنان»، وضعها الاقتصادي، توفيق كسبار، ونشرها «بيت المستقبل» بدعم من مؤسسة «كونراد آديناور»، وستناقش في حلقة مغلقة مع مجموعة من الخبراء والمعنيين، في 19 الشهر الجاري، في فندق سوفيتيل لوغبريال، الأشرفية.
تهدف هذه الورقة إلى استعراض الأسباب الكامنة وراء هذا التوقع الحاد، واقتراح سياسات محدّدة وعملية تحول دون تحقيقه. إن عواقب هذه الأزمة المالية يمكن أن تكون مدمّرة على جميع المستويات، وتتخطى بشكل كبير عواقب الأزمة المالية التي شهدتها البلاد في منتصف ثمانينيات القرن الماضي إثر الانخفاض الكبير في قيمة الليرة. وستشمل هذه العواقب انخفاضاً حاداً في دخل معظم الأسر في البلاد وثرواتها، وزيادة حادة في حالات الإفلاس والبطالة، وضبابية واسعة النطاق حول المستقبل، في ظلّ حكومة مصعوقة وعاجزة، ما سيدفع بعشرات الآلاف إلى الهجرة، إضافة إلى اختلال التوازن الاجتماعي والسياسي الهشّ أصلاً. المدهش في الموضوع أن هذا الوضع القاتم لم يدفع الحكومات المتعاقبة منذ أوائل التسعينيات ولا البرلمان إلى مناقشة السياسات المالية من سياسة نقدية أو سياسة المالية العامة (وهذه الأخيرة على الأقل منذ عام 2005). تحتوي هذ الورقة على خمسة أبواب. يستعرض الباب الأول الأسباب التي آلت إلى الحالة المالية الراهنة، ويقدم الثاني تحليلاً للمؤشرات النقدية والمصرفية التي تظهر نشوء أزمة، فيما يفصّل الباب الثالث الأضرار الجانبية التي لحقت بالمصارف وبالاقتصاد جراء السياسات المالية المعتمدة. أما الباب الرابع، فيتناول السلوك المالي للحكومات خلال السنوات الأخيرة، والذي أسفر عن تفاقم الأسباب التي قد تؤدي إلى أزمة. ويقترح القسم الأخير اعتماد سياستين محددتين وقابلتين للتنفيذ، من شأنهما أن تحتويا إلى حدّ كبر الأزمة المتصاعدة وتوفرا المساحة الزمنية اللازمة لإجراء إصلاحات. تنشر «الأخبار» هذه الورقة على جزءين، اليوم وغداً، نظراً إلى ما تتضمنه من معطيات مهمة وشروح ضرورية لفهم مصادر الأزمة القائمة والسبل المتاحة للتعامل معها

الفائدة السخيّة غير مبرّرة



في خريف عام 1992، بعد تسعة أشهر من الانخفاض الحاد الذي لحق بسعر الليرة، بلغ أكثر من ثلثَي قيمتها مقابل الدولار الأميركي، قرّرت الحكومة اللبنانية الجديدة آنذاك أن تعيد الاستقرار إلى الليرة من خلال تثبيت سعر صرفها مقابل الدولار الأميركي. إثر ذلك، تحسن سعر صرف الليرة تدريجاً ليصل في كانون الأول عام 1997 إلى 1507.5 ليرة مقابل الدولار، ولا يزال حتى يومنا هذا مستقراً على هذا السعر. وبصرف النظر عن صحة سياسة تثبيت سعر الصرف بالنسبة إلى اقتصاد صغير ومفتوح مثل الاقتصاد اللبناني، فإن هذا التدبير دفع بمصرف لبنان إلى التركيز على هدف واحد رئيس، وهو تجميع احتياطي كبير من النقد الأجنبي (فوركس/ العملات الأجنبية)، غالباً على شكل أموال بالدولار الأميركي يودعها لدى مصارف أجنبية رئيسة حمايةً لسعر الصرف الثابت، وهذا ما يقوم به مصرف لبنان فعلياً منذ اعتماد هذه السياسة.
غير أن المشكلة الجوهرية لا تكمن في هذه السياسة بحدّ ذاتها، بل في أسعار الفائدة السخية وغير المبرّرة التي يدفعها مصرف لبنان إلى المصارف المحلية مقابل ودائعها لديه. أدى ذلك إلى قيام المصارف بسحب احتياطاتها من النقد الأجنبي، والتي عادةً ما تكون بالدولار، من المصارف المراسلة في الخارج وإيداعها لدى مصرف لبنان، فارتفع حجم هذه الأخيرة من متوسط 3 مليارات دولار خلال الفترة بين 1997 و2000 إلى ما بين 52 ملياراً و 55 مليار دولار منتصف عام 2017. ويمثل ذلك ارتفاعاً في ودائع المصارف لدى مصرف لبنان نسبة إلى إجمالي ودائع عملائها بالعملات الأجنبية من 13% إلى نحو 50%. بعبارة أخرى، تقوم المصارف المحلية حالياً بإعادة إيداع لدى مصرف لبنان نحو نصف الودائع الي تتلقاها بالعملات الأجنبية من القطاع الخاص غير المقيم والمقيم. وعليه، أصبحت الميزانيات العمومية للمصارف التجارية ووضعها المالي مرتبطين بشكل متزايد مع الوضع المالي لمصرف لبنان.

لم يكن مصرف لبنان بحاجة
إلى تقديم أسعار فائدة عالية بهدف جذب الأموال بالدولار


وفقاً لما يؤكده صندوق النقد الدولي (2016) لا يتمّ تحديد أسعار الفائدة في لبنان على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية وجميع شهادات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان بحسب مؤشرات السوق، بل يمكنها أن تظلّ من دون أي تغير لسنوات عدة، فيما التداول في السوق الثانوية هو عملياً غير موجود. إن أسعار الفائدة، أو على نحوٍ أدق هوامشها نسبة إلى المعدلات المرجعية الدولية، يحدّدها مصرف لبنان إلى حد كبير. وعلى هذا النحو، منذ بداية هذا القرن على الأقل، رسّخت سياسة مصرف لبنان أسعار الفائدة في البلاد على معدلات مرتفعة، في وقت لم يكن فيه هذا الأمر ضرورياً.
إن كرم مصرف لبنان في تحديد أسعار الفائدة التي يدفعها للمصارف على إيداعاتها هو السبب الذي حدا به إلى التصرف على النحو الذي استعرضناه أعلاه. ولتوضيح ذلك، دعونا نتأمل في سعر الفائدة التي يدفعها مصرف لبنان للمصارف المحلية مقابل ودائعها بالدولار. بشکل غير معتاد بالنسبة إلى مصرف مرکزي، لا ينشر مصرف لبنان بیانات عن حجم هذه الودائع أو عن أسعار الفائدة التي یدفعها. واستناداً إلى التواصل مع مسؤولين كبار في المصارف، كما إلى مختلف البيانات المنشورة حول أسعار الفائدة، فإن التقدير المتحفظ لمتوسط سعر الفائدة العام الذي دفعه مصرف لبنان خلال السنوات الخمس الأخيرة 2016 - 2011 على ودائع المصارف المحلية بالدولار بلغ على الأقل 5.5%.
هذا المعدّل يمنح المصارف المحلية هامشاً، أو «مدى»، يفوق بنحو 5% سعر الفائدة على إيداعات الدولار الأميركي لمدة ستة أشهر والذي تحدده مرجعية ليبور (سعر الفائدة السائد على الدولار بين بنوك لندن). إن سعر ليبور يُعتبر المعدّل المرجعي الدولي الأكثر استخداماً لتحديد سعر الفائدة على هذه الودائع ويعتمده مصرف لبنان في تحديد أسعاره. وتوضيحاً للقارئ الذي لا يتمتع بخبرة مالية، عادة ما يتمّ تقييم أهمية هذه الهوامش على الودائع بين البنوك بحسب "نقاط أساس" محدّدة، بحيث تساوي نسبة 1% 100 نقطة أساس. وبعبارة أخرى، كان مصرف لبنان يدفع للمصارف المحلية، لقاء ودائعها، هامشاً يبلغ نحو 500 نقطة أساس، بدلاً من 10 أو على الأكثر 100 نقطة أساس، زيادةً على ليبور. وبغضّ النظر عن أي أخطاء في التقديرات، تُعتبر سياسة سعر الفائدة لدى مصرف لبنان بالغة السخاء، مهما كان المعيار، وخاصة في ظلّ استمرار انخفاض أسعار الفائدة في الأسواق الدولية، ما يحول دون وجود بدائل للمودعين تؤمن لهم عائدات مرتفعة.
إن سخاء مصرف لبنان في أسعار الفائدة الممنوحة للمصارف المحلية امتد ليشمل صكوكه المالية بالعملة المحلية، ولا سيّما شهادات الإيداع بالليرة اللبنانية أو الودائع الأخرى التي تحمل عادة فترات استحقاق طويلة الأجل تبلغ 15 سنة أو أكثر. وكدليل آخر، تظهر بيانات متوافرة أن متوسط أسعار الفائدة على شهادات الإيداع القائمة الصادرة عن مصرف لبنان خلال السنوات الـ 14 الأخيرة، أي منذ عام 2003، بلغ 9.5%، ما أدى إلى هامش أو «مدى» بنسبة 6.5%، أو 650 نقطة أساس، مقارنة بمعدل مرجعي طويل الأجل مثل سندات الخزينة الأميركية لمدة 10 سنوات.
منذ مطلع هذا القرن، لم يكن مصرف لبنان بحاجة إلى تقديم أسعار فائدة عالية بهدف جذب الأموال بالدولار الأميركي، لأنه ولحسن حظ لبنان، كانت الأسواق المالية الدولية، ولا تزال حتى الآن، تتميّز بتقديم أسعار فائدة منخفضة في ظلّ ما يسمى بيئة "القمع المالي". حتى إن أسعار الفائدة على العملات الرئيسة باتت في بعض المراكز المالية مثل ألمانيا وسويسرا سلبية بالنسبة إلى الودائع القصيرة الأجل. لذلك لم يكن مصرف لبنان مضطراً إلى تقديم هوامش مرتفعة مع محدودية البدائل للمودعين بالدولار الأميركي. وكان بإمكانه جذب الحجم نفسه من الودائع بالدولار لو قدّم مثلاً هامشاً يراوح بين 2.0% و2.5% بدل هامش الـ 5.5% الذي قدّمه بين 2011 و2016.

لماذا الحديث عن أزمة؟ خسائر مصرف لبنان تتزايد





الأزمة هي نقطة تحوّل تؤدي إلى تغيرات سلبية كبيرة في وضع معينّ. ويمكن المرءَ أن يصف الوضع الاقتصادي الحالي في لبنان بأنه يحمل في طياته أسباب نشوء أزمة، من المرجَّح إذا ما اندلعت أن تتحوّل إلى أزمة مالية مستفحلة، ترافقها تداعيات سلبية تطاول قيمة العملة الوطنية والقطاع المصرفي عامة، علماً أن تأثير هذه التداعيات على القطاع المصرفي هو الأكثر خطورة.
إن أسباب الأزمة الراهنة هي نتاج سياسة معتمدة وليست نتاج ظروف، بمعنى أنها نتاج مشترك للسياسات النقدية التي اعتمدها مصرف لبنان على مدى طويل، إضافة إلى سياسات المالية العامة للحكومات اللبنانية المتعاقبة والمسؤولة عملياً عن وضع الموازنات العامة، وبشكل خاص تحديد النفقات الحكومية.

أ - مؤشرات الأزمة


إن التفاصيل الفنية التي استعرضناها في الباب السابق ضرورية لتفسير المسار الذي أفضى بلبنان إلى الوقوع في الأزمة الراهنة.
باختصار، يشير الجدول رقم 1 إلى أن صافي الاحتياطي النقدي لدى مصرف لبنان سالب، أي إن التزاماته بالعملات الأجنبية تفوق منذ عام 2016 أصول احتياطاته بالعملات الأجنبية، حتى بعد احتساب أصول الذهب. تجدر الإشارة إلى أن التزامات مصرف لبنان لا تستحق كلها على الفور، بل إن جزءاً كبيراً منها يشمل ديوناً طويلة الأجل تستحق خلال سنوات لاحقة. ومع ذلك، يشهد الوضع المالي لمصرف لبنان تدهوراً منذ أكثر من عقد من الزمن، وبلغ منذ عام 2015 مستوىً غير اعتياديّ مع تحول صافي الاحتياطي النقدي لديه إلى سالب، ما يعتبر وفقاً لكل المعاير مؤشراً على خلل في الوضع المالي واستقراره.
تستوجب هذه البيانات التوقف عندها. كما أسلفنا سابقاً، لا ينشر مصرف لبنان بيانات حول الودائع التي يتلقاها من المصارف والتي تأخذ شكل شهادات إيداع بالدولار الأميركي أو ودائع مختلفة قصيرة وطويلة الأجل، ولا حول أسعار الفائدة التي يقدّمها على هذه الودائع. وعليه، وجب التنبيه إلى أن مبلغ الـ 41.4 مليار دولار الوارد في نهاية عام 2015 في الجدول رقم 1 مأخوذ مباشرةً من البيانات المنشورة في تقرير لصندوق النقد الدولي (2016). وعلاوة علی ذلك، إن التقديرات اللاحقة لعامي ٢٠١٦ و ٢٠١٧ في الجدول رقم 1 أيضاً، تستند إلى دليل قوي مآله أن مصرف لبنان أصدر بين نهاية عام 2015 و 2016، دیناً إضافیاً قدره 12.8 ملیار دولار على شكل شهادات إيداع بالدولار الأميركي.

رتب مصرف لبنان دیناً
إضافیاً قدره 12.8 ملیار
دولار في العام الماضي


إن الوضع المالي لمصرف لبنان هو إلى حدّ كبير نتيجة تراكمية لسياساته منذ عام 2005 على الأقل، وخاصة سياسة أسعار الفائدة السخية التي يقدّمها إلى المصارف كما أشرنا إليه أعلاه، والتي أدت إلى تزايد خسائره، إذ إن المبالغ التي يجمعها من المصارف المحلية يعيد إيداعها لدى المصارف الدولية بأسعار فائدة أقلّ بكثير، وعادةً ما تقارب أسعار فائدة ليبور. وهذه الخسائر المستمرة هي وراء توقف مصرف لبنان منذ عام 2003 عن نشر تقريره السنوي. وعادة، ومنذ نشره لأول مرة عام 1964، كان التقرير السنوي الإلزامي يتضمّن بياناً حول أرباح المصرف وخسائره. وهكذا، فإن جميع عمليات مصرف لبنان مع المصارف المحلية، وخصوصاً العمليات بالدولار الأميركي وتسعيرها والخسائر الناتجة منها، تجري بسرية ولا تُنشر أو تُكشف للجمهور.
أحد مؤشرات الأزمة، الذي قد يكون أکثر أهمية من الوضع المالي لمصرف لبنان، هو تأثر سياسة أسعار الفائدة علی هيكل الميزانية العمومية للمصارف. فكما يشير الجدول رقم 1، فإن 60% من إجمالي موجودات المصارف هي حالياً ائتمان للقطاع العام على شكل سندات خزينة للحكومة وودائعها لدى مصرف لبنان. ولإدراك مدى ارتفاع هذه النسبة بشكل غير اعتيادي، ما علينا سوى مقارنتها بمتوسط بلغ 35% فقط خلال التسعينيات من القرن الماضي. وبالتالي، إن الوضع المالي للمصارف قد أُضعف بسبب ارتباطه المتين بمصرف لبنان وبالحكومة. وينبغي أيضاً مقارنة الوضع الحالي بما كان سائداً منتصف الثمانينيات من القرن الماضي قبل أول انخفاض قوي في سعر الليرة، حين كانت مستحقات المصارف على القطاع العام قليلة نسبياً بمتوسط 17% فقط من إجمالي أصولها، ما مكّنها من الصمود أمام صدمة انخفاض قيمة الليرة، وتوافر أساس مصرفي متين جعلها لاحقاً قادرة على التعافي.

ب - «الهندسة المالية» لمصرف لبنان

بلغت سياسة أسعار الفائدة لدى مصرف لبنان وعلاقاته مع المصارف المحلية ذروتها في ما يُسمى عملية «الهندسة المالية»، التي جرت في صيف عام 2016، والتي كانت عملية كبيرة لجهة حجم المبالغ التي جرى التداول بها وتأثيرها في المصارف، كما تُظهر التداعيات المكلفة لسياسات مصرف لبنان وخطورة الوضع الحالي. لم يكن من المفترض أن تخرج هذه العملية إلى العلن، لكن إحدى الصحف المحلية (الأخبار) كشفت عنها. وفي ما يلي عرض موجز للمبادئ الرئيسة لهذه العملية، يستند أساساً إلى تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي ومقابلة أجراها حاكم مصرف لبنان مع صحيفة محلية (الأوريان لوجور).
بين شهري حزيران وآب من عام 2016، أجرى مصرف لبنان عمليتين، وعلى الرغم من أنهما تمتا بشكل متوازٍ، إلا أنهما مرتبطتان مباشرة. وكان الهدف المعلن لهاتين العمليتين دعم أو «تعزيز الميزانية العمومية للمصارف»، وجلب أموال جديدة إلى مصرف لبنان عبر المصارف. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الهدف الأخير غير مبرر لأن احتياطي مصرف لبنان من الدولار الأميركي كان لسنوات يزداد بإطراد، وإن کان یأتي أساساً من الودائع المتزایدة للمصارف لديه، وکان عملياً مستقراً قبل هذا الإجراء. يبقى أن الهدف الأكثر ترجيحاً وراء هذه العملية، والذي لم يعلن عنه، هو تعزيز رأس مال ما لا يقلّ عن اثنين من المصارف الكبرى فقدا مبالغ كبيرة في استثمارات أجرياها في تركيا ومصر، وصلت مجتمعة إلى أكثر من مليار دولار.
في العملية الأولى، جلبت المصارف المشاركة إلى مصرف لبنان أرصدة جديدة بلغت نحو 5 مليارات دولار، مقابل شراء شهادات إيداع بالدولار الأميركي صادرة عنه وسندات خزينة بالدولار كانت في محفظته، واعتمد مصرف لبنان في هذه الصفقة سعر الفائدة المرتفع الذي يقدمه عادة. أما العملية الثانية الموازية، فقد أعطت حوافز كبيرة للمصارف من خلال تطبيق مصرف لبنان نسبة حسم بلغت صفراً على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية وعلى صكوك مالية صادرة عنه تحتفظ بها المصارف. وإضافةً إلى حصول المصارف على كامل القيمة المالية لهذه العملية والتي تضمنت «مكافأة» الحسم بنسبة صفر في المئة، دفع مصرف لبنان للمصارف «مكافأة» إضافية أو «عمولة» بلغت نصف قيمة الفائدة التي كان من الممكن أن تحصل المصارف عليها مستقبلاً لو أنها أبقت على هذه الصكوك بالليرة اللبنانية في محفظتها حتى استحقاقها. واعتبرنا هذا الأمر «مكافأة» لأن هذه الصكوك جرى حسمها وتالياً لا ينبغي أن يُدفع لحاملها أي فوائد «مستقبلية» إضافية.
بلغ إجمالي الحوافز نحو 5 مليارات دولار، دُفعت كاملة ومقدماً بالليرة اللبنانية كما أكّد حاكم مصرف لبنان في مقابلته. وهي تمثل «مكافأة» أو «عمولة» إجمالية للمصارف تعادل نحو 100% من المبالغ التي أودعتها المصارف بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان. حتى صندوق النقد الدولي وجد صعوبة في إخفاء تفاجئه من هذه العملية، مشيراً إلى أن «تطبيق نسبة حسم بلغت صفراً على سندات الخزينة وشهادات الإيداع يشبه تمويل عملية تعزيز رأس المال (دون الحصول بالمقابل على أي حصة؛ بلغت وفقاً لتقديرات فريق الصندوق ما يعادل 10% من إجمالى الناتج المحلي)، ما ساعد على تعزيز القاعدة الرأسماليّة للمصارف». لذلك، وكما أكّد صندوق النقد الدولي، ضخّ مصرف لبنان من خلال هذه العملية أكثر من 5 مليارات دولار في رأسمال المصارف، ليس من خلال القروض ولا مقابل حصة في رأسمال المصارف كما تقتضي الممارسة التقليدية، ولكنها جرت من دون أي مسوغ لتؤمن فقط أرباحاً صافية لعدد قليل من المصارف.
إذا كان الهدف من هذه العملية تقديم الدعم المالي للمصارف، تجدر الإشارة إلى أنه في الحالات التي تحتاج فيها المصارف إلى المساعدة من المصرف المركزي، (علماً أن أي مصرف في لبنان لم يتقدّم بطلب مساعدة كهذه)، فآلية القيام بذلك محددة بشكل دقيق. في خطوة أولى، يباشر مصرف لبنان بالطلب من المساهمين في المصرف تزويد رأس المال بالسيولة. وفي حال تعذُّر ذلك، يجوز للمصرف المركزي أن يقدّم إلى المصرف المعني قرضاً مقابل ضمانات، كما فعل مصرف لبنان سابقاً، وخاصة في الثمانينيات من القرن الماضي لبضعة بنوك مقابل رهونات عقارية. وإذا تعذّر ذلك أيضاً، يلجأ المصرف المركزي إلى حلّ أخر يتمثّل بضخ النقد في المصرف ولكن مقابل حصوله على حصة في رأسماله. هذا ما فعلته المصارف المركزية في الولايات المتحدة وبريطانيا خلال الأزمة المالية التي اندلعت منذ نحو عشر سنوات. وهذا أيضاً ما كان سيقوم به أي مصرف مركزي. لكن مصرف لبنان زوّد عدداً قليلاً من المصارف بالأموال من دون أي مقابل، بلغت ما لا يقلّ عن نحو 5 مليارات دولار، أي ما يعادل 10% من إجمالي الناتج المحلي أو 30% من إجمالي رأس المال المصرفي قبل العملية.
إذا كان هدف مصرف لبنان من عملية «الهندسة المالية» زيادة موجوداته بالدولار الأميركي، فجلّ ما حصل عليه منذ إطلاق هذه العملية في منتصف عام 2016 هو 5 مليارات دولار، تكلّف مقابلها ما يعادل 5 مليارات دولار دُفعت بالليرة اللبنانية. ومهما كان معيار التقييم المعتمد، فإن كلفة هذه العملية وتداعياتها لا توازي إطلاقاً أي هدف كان مصرف لبنان يسعى إلى تحقيقه. كذلك إن العملية بقيت من دون مساءلة، في حين أن حجم الكلفة ووقعها على مصرف لبنان نفسه، والقطاع العام، والاقتصاد ككل، كبيران بشكل غير مسبوق.


* حائز شهادة دكتوراه في الاقتصاد، من جامعة ساسكس، المملكة المتحدة. شغل منصب كبير مستشاري وزير المالية في لبنان، وعمل مستشاراً في صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة، ومصرفياً في نيويورك وبروكسل وبيروت.
محاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف. في الآونة الأخيرة، قدم خدمات استشارية للمفوضية الأوروبية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول مختلف المجالات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية في لبنان والمنطقة. صدر له عام 2004 كتاب تحت عنوان: "اقتصاد لبنان السياسي 1948-2002: في حدود الليبرالية الاقتصادية"، دار بريل للنشر، ليدن وبوسطن. عام 2005، صدر الكتاب باللغة العربية عن دار النهار، بيروت.
يعمل حالياً على كتاب يتناول فيه العمل في سياق الفشل الاقتصادي والسياسي للدول العربية.