د. كمال حمدان
•سياسة توزيعية بسيطة ومحاصصات فوقية لا تخلو من الاعتبارات الضيقة

أعدّ رئيس القسم الاقتصادي في مؤسسة البحوث والاستشارات د. كمال حمدان، ورقة بعنوان «حول أزمة المواطنية الاجتماعية ونظام الطوائف في لبنان»، وهي عبارة عن مسودة للنقاش في إطار العمل الجاري من أجل إعداد التقرير الوطني للتنمية البشرية لعام 2008، الذي سيصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في خلال العام الجاري. وتنشر «الأخبار» معظم فصول هذه الورقة على حلقات، مساهمةً منها في تعميم النقاش
قد لا يكون في الإمكان الحسم بوجود «مواطنية اجتماعية» في لبنان، إذا ما أردنا احترام التحديد الدقيق لهذا المفهوم كما نشأ وتطور في المجتمعات التي سبقتنا على طريق التنمية. فالمواطنية الاجتماعية تتطلب بداية وجود المواطنية ذاتها من حيث هي في الدرجة الأولى انتماء إلى دولة ووطن، ومن حيث هي أيضاً توق إلى مساواة في الحقوق والالتزامات انطلاقاً مما تراكم من جهد نظري وممارسة عملية يتعلقان بإرساء حقوق الإنسان وتجسيدها في المجالات المختلفة، التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذ لم يتضمن الدستور اللبناني قبل عام 1990 أي إشارة إلى تعبير المواطنية، فإنه لذو دلالة بالغة أن يكون إفراط الأدبيات الرسمية وغير الرسمية في استخدام هذا التعبير بعد عام 1990 قد تزامن عملياً مع التراجع التدريجي للمقومات الموضوعية التي تسمح بوضع مندرجات ذلك التعبير موضع التنفيذ. ويشهد على ذلك اتجاه الانتماءات الضيقة وما دون الدولتية نحو اكتساب مساحات أكثر اتساعاً على حساب الانتماء إلى الدولة وإلى الوطن، وخصوصاً في السنوات القليلة المنصرمة، الأمر الذي يثير إشكاليات وملابسات كبيرة حول مفهوم أو تعبير المواطنية في ذاته، وينسحب بقوة أكبر على مسألة المواطنية الاجتماعية تحديداً.
لم تسمح التركيبة الاقتصادية الداخلية وبنية نظام الحكم الطائفي في لبنان، إضافة إلى التكرار الدوري للأزمات والنزاعات الأهلية المتكررة، في تحقيق تقدم حاسم على طريق بناء الدولة الراعية على غرار ما حصل في الدول المتقدمة وما نشأ تاريخياً في البلد من شبكات أمان وحماية اجتماعية ظل يتميز بالضعف والاختلال، ومعظمه تحقق كردّ فعل على أزمات موضعية دون أن يندرج ضمن رؤية استراتيجية للمسألة الاجتماعية عموماً. ولا يقلل من أهمية هذا الاستنتاج اشتمال الميثاق ومن بعده اتفاق الطائف على نصوص تناولت الالتزام بتطوير الحقوق الاجتماعية، لأن تلك النصوص بقيت عامة وأقرب إلى إعلان نوايا، فضلاً عن كونها اتسمت بقدر كبير من الازدواجية والتبعثر وأحياناً التنافر. هذا مع العلم بأن الأدبيات المتداولة في لبنان حول الشأن الاجتماعي تبدو غزيرة جداً. لكن المشكلة تكمن في أنه لم تتم الإفادة مما انتهت إليه من خلاصات وتوصيات، على نحو يسمح باستثمارها في بلورة وإغناء وتطوير القوانين والمراسيم التنظيمية والتطبيقية المتعلقة بالمجال الاجتماعي، وبخاصة ما يتعلق منها بموضوع الحقوق الاجتماعية بالذات. ويعبر هذا الواقع عن افتقاد الدولة (وربما المجتمع) إلى رؤية مستقبلية ناظمة لهذا المجال، كما يعبر، على مستوى أعلى عن عدم توفر إرادة سياسية واضحة ومحددة في التغيير الاجتماعي لدى المتعاقبين على حكم البلاد.

تطور المقاربات الرسمية

يمكن، بإيجاز شديد، التمييز بين ثلاث مراحل رئيسية في نسق مقاربة الدولة (والمجتمع) للمسألة الاجتماعية في لبنان.
أ ـ المرحلة الأولى غطت الحقبة الشهابية، بتفرعاتها المختلفة، وبخاصة الستينات والنصف الأول من السبعينات من القرن المنصرم. وشهدت هذه المرحلة لأول مرة منذ الاستقلال بداية تشكل إطار لسياسة اجتماعية في البلاد، نتيجةً لما أفضت إليه، في بداية تلك الحقبة، أعمال بعثة إيرفد بشأن واقع الاختلالات الاجتماعية والتفاوتات المناطقية الحادة وتركز الدخل والثروة وانتشار أحزمة البؤس المديني، ولا سيما في العاصمة وضواحيها، وذلك في وقت كان فيه الاقتصاد اللبناني يسجل معدلات نمو مرتفعة نسبياً. وتجلّت المعالم الأساسية لهذا الإطار الاجتماعي في إطلاق الدولة عدداً من التدخلات الهادفة إلى النهوض بالوضع الاجتماعي. ومن الثابت أن مكاسب مهمة قد تحققت في تلك المرحلة لفئات اجتماعية متوسطة وفقيرة، وخصوصاً بالنسبة إلى خدمات التعليم الرسمي، وبنسبة أقل الخدمات الصحية. وأبرز ما تميزت به تلك المكاسب، أنها لم تأت كنتيجة فقط للتوجهات الإصلاحية التي رافقت الحقبة الشهابية، بل أتت أيضاً بفعل الدور الصاعد آنذاك للحركات الاجتماعية ذات الطابع الديموقراطي والمدني، التي انتشرت على نطاق واسع في صفوف العمال والمزارعين والطلاب. أي بكلام أوضح، إن تلك المكاسب قد انتزعت، ولو جزئياً بفعل توازنات غلب عليها الطابع الاجتماعي ـ الطبقي أساساً أكثر مما غلب عليها الطابع الطائفي والمحاصصات الفوقية.
ب ـ المرحلة الثانية هي المرحلة التي غطتها الحرب الأهلية. وقد تميزت هذه المرحلة، بتردي أوضاع المرافق الاجتماعية التي أطلقت في المرحلة السابقة وبانهيار مرتكزات نظام الخدمة العامة. ولم ينجم هذا التردي أساساً عن تقلص ما اصطلح على تسميته الإنفاق العام الاجتماعي الذي استمر يشكل عنصراً مهماً نسبياً في موازنات الدولة خلال سنوات الحرب، بمقدار ما نجم عن سوء الأداء العام في إدارة هذا الإنفاق وبلورة احتياجاته وأولوياته، والتثبت من وصول المنافع المتأتية عنه إلى مستحقيها. وفي معرض التكيّف مع نتائج الحرب اتجه القطاعان الخاص والأهلي، إضافة إلى الميليشيات نحو الاضطلاع واقعياً بدور تدريجي بديل لدور الدولة، في توفير جانب من الخدمات العامة التي تخلّت الدولة عن تأمينها. وغالباً ما تقاطعت المصالح موضوعياً بين هذه الأطراف الثلاثة، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى في هذا المجال وقد ساهمت أنساق تمويل اقتصاد الحرب في ملء بعض من الفراغ الاجتماعي الذي نجم عن الأحداث، وإن بكلفة بشرية واقتصادية وبيئية عالية... ويمكن الاستنتاج أن المحصلة الاجتماعية لهذا النزاع الأهلي قد تمخضت عن الاهتزاز المريع للمقوّمات الاجتماعية التي كانت المرحلة السابقة قد سجلت بداياتها الفعلية تأكيداً لحق المواطن في الخدمة العامة.
ج ـ المرحلة الثالثة، هي التي تلت انتهاء الحرب الأهلية. وقد اتّسمت هذه المرحلة في جزئها الأول الممتد حتى عام 1997، بغلبة الإنفاق الإعماري، وإعادة بناء القوى الأمنية والقضاء، وإلحاق جزء من المتقاتلين بأجهزة الدولة، إضافة إلى إقرار عدد من تصحيحات الأجور تعويضاً عن غلاء المعيشة. لكن الموضوعاتالاجتماعية الأساسية بقيت تحتل آنذاك مرتبة ثانوية نسبياً، حتى بالنسبة إلى المشاريع الاجتماعية، التجهيزية والإنشائية، المشمولة في البرامج الإعمارية فما أنفق فعلاً على هذه المشاريع ـ كنسبة من إجمالي الإنفاق الإعماري ـ ظل محدوداً، ثم إن تنفيذه تميز بالبطء عموماً، بالمقارنة مع تنفيذ المشاريع الإعمارية القطاعية الأخرى. وربما كانت النظرة الرسمية الدونية للموضوع الاجتماعي آنذاك محكومة بفلسفة ضمنية، مفادها أن إطلاق عملية الإعمار من شأنه أن يحفّز النشاط الاقتصادي تلقائياً، وهذا يفضي بدوره إلى توفير معالجات مناسبة للقضية الاجتماعية. وقد يكون من ضمن العوامل التي شجعت على تبنّي هذه النظرة السطحية، تسجيل البلد معدّلات نمو اقتصادي مقبولة نسبياً في تلك الحقبة (وإن كانت تلك المعدلات لا تزيد كثيراً على نصف ما كانت قد توقّعته للفترة نفسها البرامج الإعمارية الأولى في بداية التسعينات)، الأمر الذي راهن عليه أهل الحكم ضمناً كي يكون البديل العملي لتدخلات اجتماعية أكثر جرأة وفاعلية في المدى المتوسط... أما في الجزء الثاني من هذه المرحلة وبخاصة بعد عام 1997، فقد انخفضت معدلات النمو الاقتصادي إلى نحو نصف ما كانت عليه خلال الفترة 1993 ـ 1997 (بحسب ما أظهرته بيانات المحاسبة الوطنية للفترة 1997 ـ 2005). كما اتجهت مشكلة الدين العام إلى التفاقم مرتدية طابع الحلقة المفرغة ذات القطبين. واحد يضغط سلباً على دخل الأكثرية الساحقة من اللبنانيين عبر ما يقتطعه من دخلها في شكل إيرادات عامة مخصصة لتأمين خدمة الدين، والآخر يؤول إليه الجزء الأكبر من هذه الإيرادات في شكل فوائد دائنة لمصلحة شريحة اجتماعية ريعية أو شبه ريعية تحتل مواقع أساسية مباشرة وغير مباشرة داخل الحكم وفي قطاعات محددة من الاقتصاد. ولم يكن ممكناً أن يعاد إنتاج هذه الحلقة المفرغة بصورة مستدامة، لو لم تتوفر شروط أساسية ثلاثة: استمرار تدفقات رؤوس الأموال من الخارج بصيغ شتى من جهة، والارتفاع التدريجي المثير في حجم الاقتطاع الضريبي، ولا سيما غير المباشر منه من جهة ثانية، ثم التفاهم المثالي من جهة ثالثة بين القطاع المصرفي والسلطات العامة، ولا سيما السلطتين المالية والنقدية.

اتجاهان: تعويضي ووقائي

وفي مواجهة ما انطوت عليه هذه التطورات من تدهور اجتماعي إضافي في فترة ما بعد 1997، ركزت الدولة جهودها في اتجاهين، أحدهما تعويضي والثاني وقائي. الاتجاه التعويضي ركز على الزيادة التدريجية (الكمية) لما درجت الحكومة على وصفه إنفاقاً اجتماعياً (نفقات وزارات التربية والصحة والشؤون الاجتماعية)، مع العلم بأن معظم هذا الإنفاق يذهب للرواتب ولواحقها. وقد اقترن هذا التوجه بارتفاع ما تمثله هذه النفقات كنسبة من إجمالي نفقات الموازنة، كما يتبين من مشاريع الموازنات المتعاقبة. أما الاتجاه الوقائي فقد تمثل في تحضير الدولة سلسلة من الإجراءات الاجتماعية، قبيل انخراطها العملي في تنفيذ برنامجها الإصلاحي الداعي إلى مزيد من التحرير الاقتصادي وإعادة هيكلة الإدارة والوظيفة العامة وخصخصة عدد من المرافق واستكمال الإصلاح الضريبي وإعادة النظر في تعريفات وأسعار بعض الخدمات، مع ما لذلك كله من تبعات اجتماعية مباشرة. وتركز جوهر هذه الإجراءات الوقائية في سعي الدولة إلى استحداث وتطوير شبكات أمان، الهدف منها التخفيف من آثار التصحيحات الهيكلية على جيوب الفئات الاجتماعية الأشد فقراً وانكشافاً.
وانعكس هذا الاتجاه في تكثيف الدولة لخطابها في الميدان الاجتماعي، عبر أعمال لجان وتقارير ودراسات ومؤتمرات ومشاريع قوانين ونصوص تشريعية، مستعينة بالدعم التقني المقدم من المنظمات الدولية المختلفة ومن بعض الدول المانحة. وتم إدراج محصلة هذا التوجه في ورقة مؤتمر باريس 3، ومن ثم في سعي الدولة لاستحداث إطار مؤسسي ينسق عمل الوزارات والمؤسسات العامة المعنية بالشأن الاجتماعي. غير أن التقدم الفعلي على هذا الطريق بقي محدوداً لاعتبارات عدة، أهمها، إضافة إلى الأوضاع السياسية السائدة، الافتقاد إلى رؤية استراتيجية ذات بعد كلي، وإلى خطط وبرامج زمنية وأطر مؤسسية فاعلة، ثم بخاصة إلى موارد بشرية قادرة على الاضطلاع بالتنفيذ. وهذا ما جعل المردود الفعلي للجهود المبذولة لا يتناسب وحجم الوعود التي راهنت عليها تلك الجهود.
ولعل أكثر ما ميّز المرحلة الثالثة، أن ما يمكن اعتباره قد تحقق خلالها من زيادة في بعض أنواع التقديمات أو المنافع الاجتماعية قد اندرج في معظمه ضمن سياسة ذات طابع توزيعي بسيط، تعويضاً عن التفاوت الاجتماعي الحاد واختلال العلاقة بين الدخل الوسطي وكلفة المعيشة. وقد تحقق في معظمه بالاستناد إلى محاصصات فوقية لا تخلو من اعتبارات ضيقة، طائفية ومناطقية وفئوية، في الوقت الذي كانت فيه الحركة العمالية والنقابية تتجه نحو التشرذم، والتطييف والأفول. ويتناقض هذا إلى حدّ كبير مع ما حصل في المرحلة الاولى ـ أي في الستينات والسبعينات ـ حيث تم انتزاع التقديمات والمنافع الاجتماعية لتوازنات اجتماعية وطبقية ذات سمات مدنية ووطنية، وكان للحركة العمالية دور بارز في صنعها.



المحددات المفهومية

ترتدي مقاربة المواطنية الاجتماعية في بلد كلبنان، تعقيدات من نوع آخر مستمدة من واقع المسار المأزوم والذي تجسد في تدهور معظم المؤشرات الكلية: انخفاض معدلات النمو إلى نصف أو حتى ثلث ما كانت قد توقّعته برامج الإعمار، ترسخ آليات التورم النقدي على حساب تطور الاقتصاد الحقيقي، تراجع معدلات الاستثمار وفرص العمل المتاحة، تفاقم أزمة المؤسسات، تراكم العجز وتعاظم الدين، اختلال الحسابات الخارجية، انتشار بؤر الفقر المديني والريفي وعدم فاعلية شبكات الأمان الاجتماعي واستفحال الهجرة



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث