طوال مسيرته السينمائية، غمر بابلو لارين نفسه بالأساطير الشعبية للقرن العشرين واقترب من الشخصيات التاريخية الشهيرة بهدف تشريح التصورات الاجتماعية والسياسية للأزمان والأمم. في «نيرودا» (2016)، استخدم المخرج التشيلي، بابلو نيرودا (1904 ـــ 1973)، مواطنه وأحد أعظم شعراء أميركا اللاتينية، للتعمّق في متاهة الهوية لدى الأمة التشيليّة، بينما سمح لنفسه في «جاكي» (2016) بدراسة وضع جاكلين كينيدي (1929 ــــ 1994) من عدسة معاصرة أظهرت السيدة الأميركية الأولى شاهدةً على عصرها. في فيلمه الجديد «سبنسر» (2021 ـ طُرح أخيراً في الصالات اللبنانية)، يكرّر لارين ما فعله في «جاكي». هذه المرة، يقترب من شخصية الليدي ديانا (1961 ــ 1997). يبدأ فيلم لارين بعنوان توضيحي يحذّر مما نحن على وشك رؤيته «قصة خيالية تستند إلى مأساة حقيقية». هذه الدراما تدور خلال ثلاثة أيام في فترة عيد الميلاد في قصر ساندرينغهام في نورفولك (انكلترا) المملوك للعائلة المالكة البريطانية. يضعنا لارين في اللحظة الحاسمة التي تدرك فيها الليدي دي (كريستين ستيوارت) أنّ زواجها من الأمير تشارلز (جاك فارسينغ) عالق في طريق مسدود، فتتخذ قراراً بالابتعاد عن منظومة القيم والتقاليد الصارمة التي تحكم حياة الأسرة. في هذه المرحلة، يبدأ الجميع باعتبار ديانا عنصراً ناشزاً وخطيراً ومعطّلاً للنظام. ديانا تختنق من الإملاءات والتاريخ والزوج والملكة والخدم والكلاب وأي شيء آخر. خلال إحدى سهرات العشاء الفخمة، تشعر باشمئزاز عميق من احتمال أنّها ستضطر لتذوّق أحد الأطباق الرائعة التي أعدّها طاهي القصر. عندما تنظر إلى الأعلى، ترتاح. وعلى العكس عندما تلتفت إلى اليمين واليسار، ترى فقط شخصيّات من ذوات الدم الأزرق تهاجمها بنظراتها وتحديقها البارد المصوّب نحوها كمسدّس. في أفلام لارين، قلّما يهمّ الخيال بقدر ما تهمّ الحميميّة. لا يتعلق الأمر برواية أو شرح شيء، بل بمقاربة القصة العاطفية من الداخل. يُعيد الفيلم بناء الألم عندما يصطدم الواجب بالحياة بما تحمله من رغبات وتوق إلى الحرية والانعتاق، وهذا ما يشكّل إدانة وفق النظام الملكي الذي يعيش في حقبة آفلة، وحاضره ليس سوى استمرار للماضي.
المشكلة الوحيدة في «سبنسر» أنّ المخرج وكاتب السيناريو ستيڤن نايت كتبا الفيلم أكثر من اللازم


على الرغم من أن الشخصيات حقيقيّة والقصة حصلت نوعاً ما، إلا أنّ الواقع والخيال مربكان في «سبنسر». يتم تقصير المسافة بينهما أكثر عندما يلجأ بابلو لارين إلى الاستعارة والصور المبالغ فيها والفظة بشكل مرعب. يتجول الفيلم حرفياً مع وجه ديانا، ويخاطر في بعض الأوقات عندما يخلط ما يحدث في الخارج، مع ما تشعر هي به في دواخلها. يتحول الفيلم من صورة نفسية إلى قصة رعب تدمّر حياة ما من خلال التعليقات والحكايات والقيل والقال. يضبط لارين نغمة الفيلم منذ البداية، نرى جنوداً في قافلة عسكرية تسلّم المواد الغذائية لقصر ساندرينغهام، ويتولى طاقم المطبخ مسؤوليته بأمر عسكري (المأدبات الفخمة ووصفات الأطباق الشهية بالعلاقة مع بوليميا ديانا حاضرة بقوة في الفيلم). في موازاة ذلك، نرى ديانا تقود سيارتها البورش في الريف الإنكليزي مع خريطة في يدها. منذ المشهد الأول، نرى النظام العسكري والتقاليد الجامدة في مواجهة طبيعة الأميرة الحرّة. يبدأ كل شيء بالانهيار عندما تصل إلى القصر وتتحدّث مع أولادها والعائلة. تفقد السيطرة تماماً عندما يتضح أنّها تلقّت من الأمير تشارلز عقد اللؤلؤ نفسه الذي أعطاه لعشيقته كاميليا. ليس من قبيل المصادفة أن عنوان فيلم لارين هو «سبنسر»، لأنه يصوّر الوقت الذي تبدأ فيه الأميرة بالانفصال عن العائلة المالكة بروحها، وتحاول العودة إلى جذورها (من هنا اسم الفيلم وهو عائلة ديانا قبل الزواج) واستعادة هويّتها وبراءتها وذاتها التي سحقها نمط الحياة في القصر والأدوار المزيّفة التي يُجبر كل فرد في العائلة المالكة على لعبه، ليكون الكلّ ضحية هذه المنظومة بشكل أو بآخر.
مسهب الفيلم على المستوى السّردي، وأفضل ما في «سبنسر» هو لغته البصرية. تبنّى لارين نموذج ستانلي كوبرك في فيلم «باري ليندون»، وأضاء المشاهد الليلية بالشموع، ولاحق ديانا عبر الممرات الطويلة للبيت الملكي. واستخدم زوايا واسعة لإبراز غرابة المشهد في تعبير الأميرة عن تعطّشها للرقص والحرية في غرف القصر. أظهر لارين ديانا بمعاناتها الوجودية، وأظهر وعياً ذاتياً مطلقاً عندما يتعلق الأمر بصورتها كامرأة بريئة. أظهر لارين حبه للتفاصيل الصغيرة في الفيلم والأثاث واللبس وحركات الضيوف. كل شخصية في الفيلم لديها دورها الكبير حتى لو ظهرت لدقائق على الشاشة بطريقة مباشرة. المشكلة الوحيدة في «سبنسر» أنّ المخرج وكاتب السيناريو ستيڤن نايت كتبا الفيلم أكثر من اللازم. لم يكتفيا بتصوير معاناة ديانا، بل صبّاها في كلمات زيادة عن اللزوم. هناك إفراط في الحديث والتفسير، كل ألم وإيماءة ودموع مقابلها كلمة تفسّرها. كأن المخرج والكاتب لم يثقا كفاية لا بالممثلين ولا بنفسيهما ولا حتى بذكاء المشاهد. كان يمكن لـ «سبنسر» أن يكون فيلماً رائعاً لولا الإفراط في الشرح الذي يحمله لارين معه في كل أفلامه. وفي النهاية، وببساطة ومن دون كلمات كثيرة، كريستين ستيوارت هي الليدي ديانا المثالية.

Spencer
في الصالات