الفيلم الخامس والعشرون من سلسلة جيمس بوند، مظلم مليء بالحزن والآلام والدموع والعاطفة (لو وصفنا أي فيلم لبوند هكذا قبل اليوم، لقيل إننا دخلنا الصالة الخطأ). من بين جميع الـ007، كان دانيال كريغ/ جميس بوند، الأكثر تعرّضاً للتعذيب، الرجل الذي يأخذ نفسه على محمل الجد، الجاسوس الذي يحمل حقيبة ظهر تزداد ثقلاً مع كل فيلم. بوند/ كريغ، يراكم ويضيف. مع كل فيلم يبدو كأنه يصبح أقصر وأكثر قوةً. «لا وقت للموت» (2021) يمثّل وداعه المعلن. الفيلم ليس فقط أخطر ملحمة لبوند، ولكنها أيضاً قريبة جداً من مفهوم المأساة. «لا وقت للموت» يختتم مرحلة بوند مع دانيال كريغ، المرحلة الوحيدة التي تم تنظيمها على شكل ملحمة، مع قصص مترابطة وشخصيات تنتقل من فيلم إلى آخر لتكمل القصة الطويلة. المخرج الأميركي كاري فوكوناغا أعطى بوند خلفية نفسية أكثر من أي وقت مضى. بين مشاهد الأكشن يتوقف بوند قليلاً ويبحث عن مخاوفه الشخصية وآلامه. إن كان بوند في أحد الأيام آلة قتل مجهولة ليس لها ماضٍ ولا مستقبل، باستثناء مهمة جديدة تسند له، فإن بوند الجديد أُضيف إليه طابع إنساني مختلف عن صورته النمطية وأعطاه أسباباً للعيش.
كل شيء متوازن بين فيلم حركة كلاسيكي ومعاصر


لن ندخل في قصة الفيلم لأنها تكشف الكثير، تبدأ ببوند المتقاعد وتنتهي بأجمل وداع لدانيال كريغ. في النصف الأول من الفيلم، نشعر بالراحة لأننا على أرض مألوفة. مشاهد الحركة اعتدناها ولا تزال تبهرنا، مثل المطاردة في أول الفيلم في شوارع ماتيرا الإيطالية. من بعدها، ينتقل الجاسوس إلى كوبا، حيث تتألق أنا دي أرماس بدور بالوما، بنور خاص بها. هنا النقطة الوحيدة التي يقترب فيها الفيلم من «كازينو روايال» (2006)، حيث يظهر بوند كما عهدناه دوماً: أنيق، خبيث، مضحك وبالطبع لا يرحم. لا جديد حتى الآن. كل شيء يعمل كالساعة، نبقى ملتصقين بالمقعد من البداية إلى النهاية، نتابع المعارك والمطاردات وإطلاق النار وكل ذلك تحت حجة مألوفة في أفلام بوند: سلاح دمار شامل في أيدي أسوأ الأشخاص، واليوم هو ليوتيفر سافين. لكن في منتصف الفيلم، يتخذ الشريط منعطفاً: يعمّق فوكوناغا القصة لإفساح المجال أمام شفق جيمس بوند. للمرة الأولى، نرى بوند تحت رحمة القدر، الصورة والمناظر الطبيعية ملطّخة بالأسود، تم تغيير ضوء إيطاليا وكوبا وجاميكا ليناسب حزن النروج وجنازة جزيرة الكوريلس. «لا وقت للموت» هو نهاية القوس الذي بدأ مع «كازينو روايال»، وارتفع مع «كوانتوم أوف سوليس» (2008)، و«سكاي فول» (2012)، و«سبكتري» (2015). قوس أعطى لبوند قوةً إنسانية وإحساساً حقيقياً لم يكن يملكه من قبل. بوند اليوم يمشي وحده باتجاه غروب الشمس، لم يعد يملك عشيقة في كل ميناء، ويفكر في تكوين أسرة.
تحافظ مشاهد الحركة على روح أفلام جيمس بوند، لا نقص في السيارات والسباقات والمدافع والرشاشات وأدوات بوند الخاصة. ولكن «لا وقت للموت» يركز على إرث بوند، على بوند الجديد. يحافظ على جوهر سينما «البلوكباستر» المتمثل في الانفجارات والفشار، مع دعوة للتصديق على التغيير الثقافي التي ترفع هوليوود شعاره هذه الأيّام. لم يعد الرجل البطل هو من يمتلك العضلات أو يحمل المسدس الطويل. إن الرجل الخارق الجديد على اتصال بمشاعره، حنون، يحمي من يحب، ويبكي أيضاً. وهو على استعداد للتضحية بمركزه لضمان السعادة والعدالة للآخرين. هو بوند الجديد، الحقيقي والواقعي. لا نقول هذا لأنّ بوند تغيّر كلياً، لا. ولكن في هذا الفيلم بالتحديد، كان بوند قريباً إلى الإنسان أكثر منه إلى الآلة.


«لا وقت للموت» ليس تنازلاً عن شخصية بوند التي تعودنا عليها، وهو ليس تقدمياً ولا ثورياً. فقط قدّم الشخصية بطريقة جديدة، ولا بأس بالتطور. ولكن في الوقت عينه، لا يزال بوند هو المركز، القوة، الحاكم، والعالم يقف ويسقط معه، ولو أنّه لا يمارس الجنس مع كل امرأة تتحرك، ولا يقتل بلا رحمة، ويترك الجميع وراءه.
«لا وقت للموت» ملحمة مدتها ثلاث ساعات تقريباً (الأطول في تاريخ السلسلة)، مليئة بالحركة والرصاص. لا تزال الـ «استون مارتن» الخاصة ببوند مضادة للرصاص وتطلق الرصاص والدخان. لا يزال بوند يحب الڤودكا مارتيني وبالطبع Shaken, not stirred . لا يزال بإمكانه أن يقتل بساعته، وأن يحافظ على روحه المرحة. في «لا وقت للموت»، كل شيء متوازن بين فيلم حركة كلاسيكي ومعاصر. كان دانيال كريغ يستحقّ جولة جديدة مع بوند، ولكن الفيلم هو وداع كبير ومهيب ومستحقّ. لا ينبغي التخلي عن بوند بعد ستين عاماً و25 فيلماً. لا يزال بوند هو نفسه، ولو طرأت تغييرات قليلة عليه. حتى لو لم يكون لدينا وقت للموت، فإن هذه الـ163 دقيقة تستحقّ كل شيء بالتأكيد.

No Time to Die
في الصالات