بعد تسع سنوات من فيلم «هولي موتوز»، يأتي المشاغب الفرنسي، ليهزّنا من جديد. وراء قصة تدمير الذات التي ملّتها السينما، هناك ايحاءات مسرحية نفسية وتراكمات فنية وفلسفية لا تنتهي. جلب كراكس فلسفة برتولد بريخت إلى السينما ولم يكسر الجدار الرابع فحسب بل فجّره. خلخل كياننا كمشاهدين، أبعدنا شعورياً عن الأحداث، ثم صفعنا بنتائجها. لوهلة، لم نشعر أبداً بحدوث مصيبة، ولكنّ نتائجها علينا في النهاية كانت كارثية. قوة الفيلم تكمن في هذه المسافة التي خلقها كاراكس بيننا كمشاهدين (على الرغم من تفجيره الجدار الرابع) من جهة وبين الشخصيات والقصّة من جهة أخرى. هذه المسافة تشبه المسافة التي تحدثت عنها سوزان سونتاغ في كتابها «بالنسبة إلى ألم الآخرين» (2003 ــــ Regarding the Pain of Others) عن صور الحروب. أشارت سونتاغ إلى أن أولئك الذين لم يعايشوا التجارب التي تمثّلها صور الحرب، «لا يستطيعون فهمها، ولا تخيلها». لذلك، خلق كاراكس في فيلمه هذه المساحة لنا. وعلى الرغم من فظاعة ما نشاهده، إلا أننا لا نشعر بأي شيء بسبب التغريب البريختي والأغاني. لعب كاراكس في المساحة بين خشبة المسرح والمتفرجين. أشرك متفرجي المسرح في المسرح، وفي الفيلم، وأشركنا معهم بطريقة مختلفة كلياً. خلق ما سماه الفيلسوف الفرنسي الماركسي غي ديبور «مجتمع الاستعراض» (نرى في الفيلم الطفلة «أنيت» تغني وترقص وتقلب القصص، ويرينا كاراكس «فانزاتها» حول العالم)، وأجبرنا على أخذ موقف أو مساحة خاصة نرى منها ما يحدث أمامنا تماماً كما قال ماركس عن «التغريب الاجتماعي» وغي عن فلسفة الأممية الموقفية (أنيت التي اختُزلت إلى آلة تضخّ المال). كل هذا يشير إلى مستوى الفزع الفرويدي الذي تخلّل الفيلم بأكمله. «غرابة» (Uncanny) فرويد موجودة في كل شيء، لم نعثر ابداً على علاقة منزلية معينة في الفيلم. لم نشعر أنّ هناك منزلاً للزوجين، لم نصمد أمام تفكّك الحدود بين المسرح وغرفة النوم.
جمع الكثير من الأفكار الفلسفية والنفسية، إلا أنه لم يذهب بعيداً بما يكفي ليجعلها ذات مغزى
لذلك لم يسعنا إلّا قبول فكرة لم نرها غريبة أن طفلتهما هي في النهاية دمية خشبية، حتى لا يمكن أن تكون غير ذلك. ولكنّ معاناتها وتعاطفنا معها أكثر مما تعاطفنا مع آخرين من لحمٍ ودم. لأن ما أراد كاراكس قوله مؤلم إلى درجة أنه يحتاج إلى رموز اصطناعية حتى يتمكّن من سرده. كل شيء يفيض بالمأساة في هذا الفيلم، ليس فقط على مستوى العلاقة الرومانسية بين الشخصيات المحكوم عليها بالفشل منذ البداية، ولكن أيضاً بطريقة أكثر عمقاً عندما يعالج تجاوزات المجتمع الاستهلاكي، الطريقة التي يخلق بها الجمهور ووسائل الإعلام هالةً حول حياة شخص معين ويحوله إلى معبود ثم يتخلص منه برمشة عين. قصة «أنيت» تدخل باستمرار في مفهوم «الوهم البصري» وتخرج منه، مثلما تؤكد العاصفة التي تحدث في البحر على الملحمة والمأساة، وتعمل خشبة السفينة على أنّها مسرح لتؤكد لنا أنّ ما نشاهده خيال.
قدّم آدم رايڤر أقوى أداءٍ له حتى الآن. في مشهدٍ واحدٍ على خشبة المسرح، أذهلنا بقدرته الكبيرة في التمثيل المسرحي على الرغم من أننا نشاهد فيلم سينما. عرض شخصية النجم المرتبك بدقّة طوال الوقت. ماريون كوتيار على الرّغم من أنّ شخصيّتها لم تكن أُحادية البعد، لكنها مبسّطة. حاولت كوتيار قدر الإمكان أن تملأها بالحياة والحساسية. وبالطبع، بصمة كاراكس لا تزال نفسها، وضع الكثير من نفسه في الإخراج والتصوير والصوت والألوان، الأخضر الذي يعشقه لا يفارق الشاشة.
«أنيت» فيلم حساس جداً بقدر ما هو راديكالي، مفاجئ، متشائم ومصرّ على أن يلقي بنفسه في البحر من دون سُترة نجاة. على الرّغم من أن كاراكس جمع الكثير من الأفكار الفلسفية والنّفسية، إلّا أنّه لم يذهب بعيداً بما يكفي ليجعلها ذات مغزى، ولكنّنا نعرف كاراكس جيداً. ومنذ بداية الفيلم حتى آخره وحتى المشاهد بعد تترات النهاية، كان يقول لنا بأن لا نأخذ أيّ شيء على محمل الجد. كاراكس هنا يلهو بالسينما والمسرح وبنا، طلب منا الانتباه في البداية، وفي النهاية وضعنا كلياً في الفيلم من دون أي مسافة وفجأة طلب من خلال هنري عدم المشاهدة.
* Annette على Amazon Prime