البندقية | في البدء كانت المقايضة، ثم جاء المال، وبعدها البنوك، الائتمان، الديون، السندات، صناديق الدعم... ومن هنا بدأت سلسلة لا حصر لها من شركات خارج الحدود «أوفشور» التي «تنظم» العمليات المالية والترشيد، وتقدم الخصوصية والسرية لأشخاص كثيرين وكميات هائلة من رأس المال. في عام 2016، انكشفت فضيحة «وثائق بنما» (أكبر تسرب معلومات في التاريخ)، وهو ملف سري يتألف من ملايين الوثائق التي تعود لشركة «موساك فونيسكا» للمحاماة البنمية (أسس جورجين موساك المكتب ثم انضم إليه رامون فونيسكا. للمكتب فروع في أنحاء العالم، وهي أكثر نشاطاً في البلدان التي توفر ضرائب منخفضة). توفر الوثائق معلومات مفصلة عن مئات الآلاف من الشركات الخارجية، وتظهر مدى ثراء أفراد ورؤساء وسياسيين ومسؤولين عامين ورجال أعمال، يهرعون إلى شركات الـ «أوفشور» للتهرب من الضرائب وإخفاء أموالهم عن أعين الدولة. سرّب مصدر مجهول كل هذا لوسائل الإعلام. من هنا قرر المخرج الأميركي ستيفن سودربيرغ بناء فيلمه الجديد The Laundromat (يعني الاسم محلات غسل الثياب، في إشارة إلى غسيل الأموال) الذي عرض في «مهرجان البندقية» المقام حالياً. «تستند القصة إلى أسرار حقيقية» يوضح الفيلم، وهو مقتبس عن كتاب «عالم السرية: داخل شبكة أوراق بنما للتحقيق في شبكات الأموال غير المشروعة والنخبة العالمية» لجيك بيرنشتابن.
لم يحتج سودربيرغ وقتاً طويلاً ليدخلنا في أجواء القصة وما سيكون عليه شكل الفيلم (الطريقة المعتادة للمخرج من بعض النواحي). لقد وضع على الفور الثنائي موساك وفونيسكا (غاري اولدمان وانطونيو بانديراس) في المشهد الأول، وهما يسيران في الصحراء مرتديين التوكسيدو ويتحدثان معنا مباشرة، بلهجة فكاهية نوعاً ما وبتكبر. يمران خلال المحادثة بإنسان الكهف، يساعدانه في إشعال النار بولاعة من ذهب. يشرعان بتقديم ملخص موجز لتاريخ الاقتصاد الذي بدأ بالمقايضة، ووصل إلى تشابك الممارسات التي تشكل الوضع المالي العام في العالم الحديث، ويقدمان موجز هذا الإيمان بالإله الذي له أسماء لا نهائية (دولار، يورو، ين، ليرة)، وصولاً إلى ما يعرف بـ«وثائق بنما». ثم شرع سودربيرغ بتقديم العنصر الخيالي للفيلم وهو المركز للقضية بأكملها. بعد أن تفقد ألن مارتن (ميريل ستريب) زوجها في حادث قارب، تعلم أنها لن تحصل على تعويض التأمين الذي تستحقه، والسبب؟ شركة القوارب وقعت عقداً مع شركة تأمين رخيصة، استحوذت عليها شركة أخرى، ثم اتضح أنها شركات وهمية. ومن هنا يبدأ التحقيق الذي يصل إلى موساك وفونيسكا. لكن الفيلم لا يتبع مسار ألين في كشف الحقيقة بسرد مستقيم، بل يجول بنا العالم من الكاريبي إلى الصين والمكسيك ولوس انجلوس، ويروي قصصاً (خمسة فصول) قد لا ترتبط ببعضها مباشرة، لكنها تتشارك النتيجة نفسها، وهي التهرب الضريبي بإبداع احتيالي من موساك وفونيسكا اللذين يدخلان بين الحين والآخر ويهدمان الجدار الرابع (1) معلقين على الأحداث، ويقدمان أسراراً حول كيفية عمل النظام المالي العالمي. جميع القصص الثانوية تُقدم باهتمام وفكرة واحدة توثق الفساد المالي والنظام الفاسد الذي يحمي من يحمون أموال الأشخاص الذين لديهم أكثر بكثير مما قد يخسرونه. وبطبيعة الحال، يذكرنا الثنائي أن ما يفعلانه غير قانوني وأنهما ليسا الوحيدين، وليسا بحاجة لمعرفة مصدر أموال عملائهما وأن التهرب الضريبي ليس هدفهما فقط، بل أيضاً غسل الأموال، الرشاوى، إنشاء مجموعات سرية، الدعارة وحتى تنظيم الموت. فيلم سودربيرغ يشكل كتالوغاً كاملاً من عناصر مرئية بصرية وانتقالات حادة ونكت متينة، ولكن قبل أي شيء، كما قال المخرج، هو للترفيه لا للتثقيف.



بخطوات سريعة وحوارات ملحة وذكية وتفسيرات «الأشرار» الذين هم «بشر مثلنا» كما يذكّروننا دائماً؛ يكشف سودربيرغ تأثير واقع العمليات المالية والسياسة في العالم وكيف أصبح النظام المالي العالمي متداخلاً في حياة الناس اليومية. يعرض ما هو ملموس وما ليس ملموساً. يستخدم فضيحة أوراق بنما للنظر إلى الوضع المالي بمنظور مختلف. في النهاية، إنها لعبة، مهزلة كبيرة للاقتصاد المالي الدولي، استمرت قروناً طويلة لأن ثغرات القوانين تسمح بذلك، متناسين حماية الضحايا. كما أنها لعبة سياسية (النظام السياسي الأميركي والعالمي يديره الأغنياء) ودينية (فعبارة «نثق بالله» مكتوبة على كل دولار).
على الرغم مما يراد تقديمه في الفيلم وكمية المعلومات التي يمكن أن تكون جديدة للبعض (أنا واحد منهم)، إلا أنّ الفيلم سهل الهضم. اختار سودربيرغ شرح قصة معقدة بأبسط الطرق وأكثرها مباشرة وبطريقة ذكية تقدم المعلومات بكوميديا سوداء وهجاء واضح. من بين التسلسلات السردية للقصص المشبعة بروح الدعابة؛ يحبك المخرج انتقادات ليس فقط لأميركا ولكن للنظام المالي بأكمله الذي يسمح بوجود الملاذ الضريبي.
الفيلم مزيج من العروض المسرحية والوثائقية، التي ولدت كي تقنعنا أن مزج المرح والجد يقنع المشاهد بعملية خداع النظام، وهو أمر ناجح كان وما زال لسودربيرغ. المشهد الأخير هو الأقوى والأكثر إثارة للدهشة في الفيلم بأكمله، إذ وضع لأن سودربيرغ يشعر بالغضب كما هو واضح. ولنكن صادقين، على الرغم أن ما قُدم جيد ويجب إلقاء الضوء عليه، ولكن سوف ينتهي بنا الأمر لنسيانه كما فعلنا من قبل مع الكثير من الأفلام التي تقدم موضوعات أكثر خطورة، ليس لأننا لسنا مهتمين أو لأن الفيلم قدم بطريقة سيئة بالعكس؛ السبب الرئيسي هو أننا كلنا شركاء في ما يحدث.

(1) الجدار الرابع مصطلح ارتبط بالمسرح الواقعي الحديث، هو حائط وهمي بين الممثلين والجمهور، يكسره الممثل لأسباب درامية أو كوميدية عندما يتفاعل أو يتحاور مباشرة مع الجمهور.