تنطلق مساء اليوم عروض «كفرناحوم» فيلم نادين لبكي (1974) الجديد، الحائز جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان كان السينمائي الدولي» هذا العام، لتكون لبكي بذلك ثاني لبنانية تنال هذا التكريم بعد الراحل مارون بغدادي عام 1991 عن فيلمه «خارج الحياة». وأمس، أعلنت وزارة الثقافة اللبنانية عن ترشيح الشريط لتمثيل لبنان في مسابقة الأوسكار عام 2019 عن فئة الفيلم الأجنبي في شباط (فبراير) المقبل. أبطال الروائي الثالث للبكي، ليسوا ممثّلين محترفين أو معروفين، ولا تلعب لبكي الدور الرئيس في أحداثه، كما فعلت في «سكر بنات» (2007) و«وهلأ لوين؟» (2011)، ولا تصوّر لبنان كقطعة في بطاقة بريدية. زين، يوناس، رحيل وآخرون… شخصيات حقيقية، مهمّشة في أحزمة البؤس في بيروت والعالم السفلي للمدينة، في «كفرناحوم»، أو مدينة الفوضى والغضب. تجربة تقترب فيها لبكي للمرة الأولى من السينما الواقعية مع أبطال يجسدون أدوارهم الحقيقية، وتحريك عدستها في الشارع ومناطق الحرمان وبيوت الصفيح. من خلال قصة زين ابن الـ 12 عاماً الذي يرفع دعوى قضائية على أهله لأنهم أنجبوه، تتفرّع الحكاية إلى خيوط درامية تنسجها مآسي الأطفال مكتومي القيد، والعاملات الأجنبية، وأطفال الشوارع وهؤلاء «غير المرئيين» في المجتمع.... الفيلم افتتح «مهرجان الفيلم اللبناني»، الاثنين الفائت، قبل أن يطرح اليوم في الصالات اللبنانية. «الأخبار» التقت المخرجة اللبنانية في مكتبها في الأشرفية للتحدث عن هذه التجربة التي تعتبرها مفترقاً في مسيرتها المهنية.
زين الرافعي في مشهد من الفيلم

من هم أبطال «كفرناحوم» وكيف وصلت إليهم؟
هم أشخاص حقيقيون التقيناهم جميعاً مصادفة في الشارع. زين (زين الرافعي) لاجئ سوري هرب من الحرب في بلده، وعاش في منطقة المزرعة مع عائلته في وضع صعب فعلاً، ولم يلتحق بالمدرسة. حين بدأنا مرحلة التصوير، لم يكن يتقن كتابة اسمه المكوّن من ثلاثة أحرف. اجتمعت فيه ملامح والصفات التي أردت جمعها في شخص واحد حين كتبت السيناريو. كانت المهمة مستحيلة. عرفت أن زين هو الشخص المطلوب للدور منذ أن وقعت عيناي عليه، شعرت بطاقته وذكائه. كان يلعب في الشارع مع رفاقه، رأته مديرة الكاستينغ وصوّرته وشاهدت الفيديو. أما «رحيل» (العاملة الأثيوبية) في الفيلم أو يوردانوس شيفرو في الحقيقة، فكانت أيضاً تعمل في مطعم. حين شاهدت المقابلة معها، شعرت بأن لديها مأساتها أيضاً. فقدت أهلها في الرابعة من سنّها، ربّت إخوتها وحدها، ثمّ أتت إلى لبنان بطريقة غير شرعية وبدأت رحلة عذابها هنا من دون أوراق. جميع أبطال العمل كذلك، يوناس (الطفل الأثيوبي وهو في الحقيقة طفلة تدعى بولواتيف تيرجر بانكول) وسليم (فادي كامل يوسف) وسعاد (كوثر الحداد) والدا زين، والقاضي في المحكمة هو قاض أيضاً.

كيف كانت تجربة العمل معهم على أداء الدور إذاً؟
بالتأكيد هناك متعة، أنا أحب هذه المدرسة من السينما، وقد حاولنا أن نكون في خدمة الممثلين. كان هناك سيناريو مكتوب، لكن سمحنا لأنفسنا بمساحة كبيرة من الحرية. لم أطلب مرّة من زين أو من الممثلين حفظ النص أو التمثيل. لم يكن من الممكن تطبيق طريقة العمل المعتمدة عادة مع ممثلين محترفين. زين ذكي ولديه طاقة وعفوية ولا يخاف الكاميرا. في أحد المشاهد، قرّر من تلقاء نفسه الجري خلف الدراجة النارية التي يقودها والده ومعه شقيقته. ركض الحيّ عشر مرات، لحقنا به جرياً مع معداتنا.
صوّرت داخل منازل وشوارع أحياء فقيرة في النبعة، وحيّ منازل الصفيح في الكولا، وسجني العدلية ورومية


اخترت فريق العمل المناسب لتصوير مليء بالحركة؟
مدير التصوير كريستوفر عون قام بعمل رائع، الجميع كذلك، راهنت على الشغف في فريق العمل أكثر من رهاني على الخبرة وكسبت الرهان. منهم من يعمل للمرة الأولى. الكاميرات كانت ترقص في ملاحقتها لحركة الممثلين.

أين صوّرت الفيلم؟
صوّرت داخل منازل وشوارع أحياء فقيرة في منطقة النبعة، وحيّ منازل الصفيح في الكولا، خلف موقف السيارات والباصات والمحال الصغيرة وسجني العدلية ورومية.

ماذا عن ظروف التصوير على الأرض؟
حصل معنا ما يشبه العجائب، كثير من القصص، قُبض على يوردانوس (رحيل) بعد تصوير مشهد القبض عليها في الفيلم بيومين. وشعرت ورأت ما صوّرناه في الفيلم. أيضاً قُبض على والدي الطفلة بولواتيف تيرجر بانكول (يوناس) اللذين كانا برفقتها، جميعهم من دون أوراق. كنا نصوّر مشهد «يوناس» دون أهله في الفيلم، بينما في الحقيقة، كان أهل يوناس/ تريجر في السجن. بقيت الفتاة معنا ثلاثة أسابيع إلى أن أفرج عن والديها. كان كلّ فريق العمل متوتَراً إلا أنا.

تدخلتم لدى الشرطة؟
تدخلنا وأتممنا أوراقهم.

كانت المرأة ومعاناتها محور فيلميك السابقين. أردت في «كفرناحوم» تصوير معاناة المناطق المهمّشة. هناك موضوع الفقر، وقضية فاقدي الأوراق الثبوتية، أو غير المسجّلين، ومعاناة العاملات الوافدات ونظام الكفالة، والإتجار بالبشر، والزواج المبكر، والفقر؟
نعم، أنا أرى أنّه كلّه متّصل ببعضه، في هذه الأماكن 90 في المئة من سكانها لا يملكون أوراقاً، بالتأكيد هناك فتيات تزوجن باكراً، هناك أولاد لم يذهبوا إلى المدرسة أو دخلوا إلى السجن. وكذلك بالنسبة إلى يوردانوس، أو العمال الأجانب، فهم يسكنون في هذه الأحياء أيضاً. كلّ هذا قصّة واحدة، وهذه القصة تحدث كل يوم. منهم من سيقول إنّ هذا كثير أو هناك مبالغة في الفيلم، أقول إن الواقع أسوأ بكثير بعد. لقد دخلت إلى منازل رأيت فيها ما لا يصدّق، هناك العديد من الأولاد المظلومين.

هل كنت قاسية في أحكامك على تصرفات هذا المجتمع أو أسلوب عيشه؟
كنت ضائعة. أحياناً كنت سريعة الحكم، كنت حين أدخل منزلاً، أجد أطفالاً وحدهم، يشعرون بالبرد، أحدهم يأكل بودرة الحليب لأنه ليس هناك ماء، آخر بجوارب مبلّلة. أشعر سلباً تجاه الوالدة وأتساءل كيف يمكنها ترك أولادها هكذا. بعد مرور عشر دقائق على لقائي بها، يتغيّر كل شيء. أقول لنفسي مَن أنا لأحكم؟ لم أعرف أنا أو أولادي الجوع، لم أطعهمهم ماءً وسكّراً لأني لا أملك طعاماً. هؤلاء لا يستطيعون تسجيل أولادهم عند الولادة لأنهم لا يملكون مبلغ مئة دولار، ثمن التسجيل. لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس ولو كانت مجانية لأنهم لا يستطيعون شراء ثياب وكتب لهم. أنا متقلبة طوال الوقت، وليس هناك ما هو صح أو خطأ، هذا المجتمع أيضاً ضحية الجهل وضحية نظرة الآخر، وضحية الحروب والسياسيين والأنظمة الغبية والمجتمع.

المخرجة مع بطلها الصغير

والد زين، عاش فعلاً ما يقوله في مشهد المحكمة التي اعتبرها المجتمع. طلبت منه أن يقول فعلاً ما يشعر به وما عاناه. كذلك والدة زين، طلبت منها حين تؤنبني (تؤدي لبكي دور محامية زين في الفيلم) في المحكمة أن تقول ما تشعر به فعلاً تجاهي أنا نادين لبكي الآتية من عالم آخر، لا نادين المحاميّة في الفيلم. هي عاشت ما هو أسوأ مّما نراه في الفيلم وهي اضطرت أن تطعم أولادها ماءً وسكّراً. هذا هو هدفي أتمنى أن لا تصل أي فكرة أني قاسية بحكمي على الأهل.

هذه المرة لم نرَ نادين الممّثلة بدور البطولة؟
هذه المرة دوري صغير.

لكنك تقومين بنوع من البطولة من خلال لعبك دور المحامية عن زين؟
ليست بطولة…

اقتربت من خلال «كفرناحوم» من سينما الواقع؟
طبعاً، هذا العمل مختلف كلياً عمّا سبقه، وأعتبره مفترقاً في مسيرتي.
فساد القضاء والمجتمع والنظام واضح في الفيلم، في صورة السجون مثلاً


ألا تشعرين أن هناك نوعاً من نهاية غير منسجمة مع هذا الواقع ومع هذا العالم الذي تريدين تصويره؟ أي أن هناك قضاءً نزيهاً حقّق العدالة، وقوى أمنية أوقفت المجرمين، والإعلام أيضاً لعب دوراً مهمّاً للوصول الى نهاية سعيدة؟
لا أرى أي نهاية سعيدة لأي شخصية في الفيلم. أمّا فساد القضاء والمجتمع والنظام فهو واضح، في صورة السجون مثلاً… ما حقّقه زين، انتصار صغير عبر إيصال صوته إلى العالم والمجتمع، لكنه ظلّ في السجن. رحيل أيضاً، عثرت على ابنها بعدما خطف منها، لكنها رحِّلت من لبنان. أما بالنسبة إلى الإعلام، فهو سيف ذو حدّين. هو أفاد من «السكوب»، ولكنه لعب دوراً إيجابياً. زين أيضاً أفاد من هذا السكوب. وهذا ما يحصل حقيقة أحياناً. بغضّ النظر عن انقسام الآراء حول جو معلوف (يؤدي دور الإعلامي الذي يوصل قضية زين إلى الرأي العام في الفيلم)، هناك قضايا استطاع أن يحقق فيها شيئاً. لا نستطيع أن ننكر. ليست النهاية سعيدة. إذا وصلت فكرة غير هذه، أكون قد فشلت، أو أخطأت الحساب في مكان ما.

هل يمكن أن يغيّر الفيلم طريقة تفكير الناس إزاء العاملات الوافدات وأطفال الشوارع؟
هذا هدفي وأتمنى ذلك.

هل تفكرين في نوعية الجمهور خلال إنتاج الفيلم، جمهور محلي أو أجنبي؟
أبداً، أعمل وفق ما أشعر به. قد يعجب الجمهور خارج لبنان لأن الإنسان هو ذاته، ولأنّ المشاكل هي ذاتها في أنحاء العالم، مشكلة هؤلاء الأطفال موجودة أيضاً في باريس ولندن. هذا موضوع إنساني يمسّ الجميع.

* «كفرناحوم»: بدءاً من اليوم في الصالات اللبنانية


زين في النرويج
خلال المقابلة مع لبكي، تحدثنا عن لجنة تحكيم «مهرجان كان السينمائي الدولي» هذا العام، وردود الفعل لدى مشاهدة «كفرناحوم». قالت نادين لبكي إنّ الممثلة كيت بلانشيت، التي كانت رئيسة اللجنة في هذه الدورة من المهرجان الفرنسي، تأثرت جداً بسماع قصة زين. وبما أنّها أيضاً سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة، فقد أوصلت قضية زين، وضغطت باتجاه منحه اللجوء مع عائلته إلى النرويج. تضحك لبكي، قبل أن تضيف: «اليوم، زين يعيش في منزل من طابقين في النرويج، يطلّ على البحر مع جاكوزي، وبدأ الذهاب إلى المدرسة. غالباً ما يرسل لي صور منزله عبر «الواتس آب»».