أن تكون هناك صبيّة في مقتبل العمر تعيش في اليابان وتشتهر بلعب كرة السلة قبل أن تتحوّل فجأة إلى صناعة السينما، يستحق توقّفاً مليّاً، حتى قبل أن تعرف أنّها صارت السينمائية الأكثر تكريساً في «كوكب اليابان» وحصدت بأفلامها عدداً من الجوائز العالمية. طبعاً نحن نتحدّث عن المخرجة نعومي كاواسي (53 عاماً)، التي أطلقت مهرجاناً في مدينتها نارا وأخرجت الفيلم الرسمي لـ «أولمبياد طوكيو 2020». غنى سيجد دلالاته في شخصيّتها التي تنضح من إطلالتها ومنطق تفكيرها بإيمان مطلق، وانسجام مع روح الديانات السماوية، عدا عن قناعتها الصريحة بلغة الطبيعة والإشارات التي قد ترسلها إليها. إذ زارت مرة نفقاً مهجوراً يصل مدينتها بولاية ثانية، وأثناءها هبّت عاصفة قوية فاعتقدتها نداء من الطبيعة لتُعيد الحياة لهذا النفق، وهو ما حصل في فيلمها Moe no Suzaku.«تحولت من لاعبة كرة سلّة معروفة، تأكل خمس وجبات صحيّة في اليوم ولا تعرف شيئاً عن السينما، إلى مخرجة... لا أعرف ما هو السبب. ربّما هبط عليّ وحي من إله الأفلام»، تقول في مؤتمرها الصحافي الذي عُقد على هامش فعاليات الدورة الأخيرة من «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الذي ترأّست فيه لجنة تحكيم المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة. يومها، أطلّت على جمهور عريض في المسرح المكشوف في «دار الأوبرا» بفستان أبيض فضفاض ومظهر يوحي غالباً بإحساسها العالي بالرضا الهائل. فضلاً عن هيئتها البرّانية، تتكرّس وجهة نظرها الإيمانية لدى جوابها على مداخلة «الأخبار» حول ما إذا كان صانع الفن يجب عليه أن يكون ممسوساً بهاجس البلاد التي تُعاني من الحروب والشعوب المقهورة، ثم ماذا قدّمت في منجزها السينمائي الذي اكتسح المهرجات العالمية، وحقق أهم الألقاب لبلاد مثل سوريا ولبنان وليبيا واليمن والعراق وفلسطين؟ فترد بالقول: «عانينا في اليابان أيضاً، وتحدّثت عن ذلك في أفلامي، لكنني مقتنعة بأن الثقافة لا تُنهي الحروب... قد تؤسس لمنطق يشتغل على جيل يمقت الحروب ويرفضها، لكن الأمر يحتاج سنوات طويلة جداً... الأهم من ذلك تعليم الأطفال أنه ما زالت هناك في الحياة مساحات سلمية خيّرة يجب الانتماء إليها، لكن ما يحدث أن نتيجة الضغوط الهائلة التي يعيشها الإنسان حول العالم، فإنه سيعجز عن منح طاقة إيجابية تناهض الحروب لأطفاله. أشعر بمسؤولية تجاه من يتعرض لحرب لذلك أصلّي لهم وأدعو بأن يعم السلام أرجاء الكون، حتى إنني سألت كاهناً ذات مرّة وقال لي إنّه يصلّي كلّ صباح من أجل السلام وهو كلّ ما يقدر عليه، وهو ما صرت أفعله منذ ذلك الوقت».
لا تتنازل كاواسي ولو للحظة عن اعتدادها الصريح لحدود متقدمة ببلادها وحضارتها والتقاليد الشعبية التي تحكم يوميات بلدها بانضباط صارم: «إذا كان هناك شخص يرتدي كمامة على هذا المدرّج فالأكيد أنه ياباني، لأننا شعب يلتزم بالقواعد والقوانين بطريقة خيالية»، تقول في إجابتها عن سؤال حول تأثير كورونا والحظر العام على صناعة الأفلام. أما عما أثر على فن بلادها عموماً ومنعه من تحقيق الانتشار الكافي في العالم، فتشرح: «لا نتلقّى من الدعم الحكومي عُشر ما يتلقّاه الكوريون الجنوبيون مثلاً، لذا نستحق مزيداً من العناية والاهتمام والتمويل فيما نصنعه». فيما تصل أنفتها بمحيطها إلى ذروته عندما تُسأل إن كان هناك من سينما يابانية مصرية مثلاً أو مشاريع فنية مشتركة يمكن أن تكون طموح مرحلة قادمة؟ فتقول: «لم يتح لي التعرّف على هذه البلاد بالشكل الكافي، لكن عشرة أيّام أمضيتها في القاهرة زرت بعض المعالم التاريخية الأثرية والأهرامات لكن وصلت سريعاً لقناعة بأننا من ثقافتين مختلفتين تماماً، لن تجد في اليابان مثلاً شخصاً واحداً يطلق الزمور وهو يقود سيارته في الشارع بدون أدنى نظام!».
من جانب آخر، تروي المخرجة اليابانية عن نارا المحاطة بالجبال وليس البحار، وكيف صارت لديها رغبة صناعة السينما لتوصل صوت هذا المكان إلى العالم، لكن بصيغة مختلفة عن شكل السينما التقليدية: «أركّز على أشياء غير معروفة وقد لا تهم العامة، وغالباً هناك سينما تقدّم غزارة في الأفكار والمواضيع بينما أنحو باتجاه تفاصيل صغيرة لأصنع منها فيلماً».
ولماذا أمضيت 10 سنوات تنجزين أفلاماً قصيرة قبل تجربتك الطويلة الأولى؟ «الأفلام الروائية تصنع قصة يجب أن يفهمها كلّ من يتفرّج عليها، في حين يدخل صانع الفيلم رأيه الشخصي في القصة. وهنا ربما يجافي الموضوعية. لذا، جلست عشر سنوات لأتعافى من أن أُدخل يومياتي أو آرائي الشخصية في أفلامي».
تجرّب نعومي خلق جسر بين الوثائقي والدراما في أفلامها، رغم أنها بدأت من بوابة الوثائقي لتذهب لاحقاً إلى محلّات تماهي بينه وبين والروائي من خلال فكرة الربط بين الأزمنة والأماكن. وعن المنطق الذي تنتهجه في آلية تطوير فيلمها من الفكرة حتى يصير صورة، تقول: «أستوحي شخصياتي من الحياة الواقعية، ولا أعتمد على الذاكرة في الكلام لأنّ الذاكرة تتسجّل لديّ على شكل صورة. الصور تلك تستحيل أفكاراً، ثم تُعاد صياغتها كفيلم. عموماً، نحن بلد يعاني من كوارث طبيعية: براكين وزلازل وتسونامي. لدرجة أنه يمكن لمدينة كاملة أن تُمحى وتُباد في ليلة ظلماء! الطبيعة توصل رسائل بكل الأحوال لذلك لم يكن هناك فرصة أمامي لأدير ظهري لها. هكذا، كانت هذه الطبيعة المتباينة بطلة أو شخصية رئيسية في كلّ أفلامي».
أما عن أسلوب إدارتها للممثل، فتوضح أنها تدفع ممثليها إلى العيش أسبوعين على الأقل قبل التصوير في موقع التصوير الرئيسي للفيلم، لتخلق بينهم علاقات إنسانية وتقاطعات مشتركة وتترك لهم فرصة صوغ كيمياء في ما بينهم. وأثناء التصوير تُبعد كل من ليس ضروري التواجد، حتى إنها تراقب ممثليها بمعدّاتها من بعيد تماماً، ليتمكّن كلّ منهم من عيش اللحظة من دون تشويش أو تشتّت. فيما تنحاز للممثلين المبتدئين أكثر: «أفضّل الممثلين المبتدئين وغير المحترفين حتى، لأنهم يركّزون بدقّة على الشخصية، أكثر من السيناريو، ويتلقّون التوجيهات والتعليمات الإخراجية بطريقة أميز. حينها يكون الممثل مادة خام ومطواعة. أما الممثل المحترف والمكرّس، فربما يركز على السيناريو أكثر ويبالغ في اللبس مثلاً، ولا يطبّق التوجيهات كما يجب، لأن لديه طريقته المختلفة أصلاً ولا يمكنك فرض وجهة نظرك عليه». كما أنّها تروي بصدق كيف اضطرت مرّة للعب شخصية في أحد أفلامها بسبب تغيّب الممثل وعدم قدرة الميزانية على استبداله أو انتظاره.
بعدها، يأخذ الحديث مجرى مختلفاً عندما تحكي عن ثقافة الاحتلال وما تخلّفه على بعض المناطق التي تصبح مثل دويلة صغيرة مستقلة بعاداتها ومنطقها. فمثلاً، لا يزال الجيش الأميركي موجوداً في جزيرة أوكيناوا ضمن قاعدة عسكرية حتى اليوم.
«نحن اليابانيون نعتقد أننا تحرّرنا وبنينا أنفسنا بعد الحرب، لكن سكان هذه المقاطعة لديهم طقوس وتقاليد مختلفة عنا حتى عندهم أسلوب ورقص خاص همّني جداً علماً أنه منذ خمسين عاماً قام النحّات والرسّام والكاتب تارو أوكاموتو (1911 ــ 1996) ببناء تمثال الشمس وأسس معرضاً. الآن سنعيد إحياء هذا المعرض تحت إشرافي وسنصنع تمثالاً جديداً ضمن تظاهرة فنية. لأنني كنت شغوفة بأن يعرض أهل أوكيناوا رقصهم إلى جانب لوحات راقصة يابانية». تشرح كاواسي، وتضيف: «جزيرة أوكيناوا يابانية لكن لدى سكانها ثقافة مختلفة، وهذا ليس حكراً في اليابان، إذ هي كثيرة الدول الكبرى التي تُهمل ثقافات لمناطق صغيرة نائية فيها. عدا عن أنني سأركز على الأغاني التقليدية التي تغنيها الأمهات لأطفالهن كي يناموا! هذا ينقل جرعات عالية من الحميمية والدفء».
ولدى سؤالها عن سبب تأسيسها «مهرجان نارا السينمائي» وعن دور المهرجانات في نقل الثقافات تقول: «كنت ولا أزال مسؤولة عن هذا المهرجان ونحن لا نعطي جوائز مالية، لكننا نمنح حق ظهور الفيلم في هذه المدينة الرائعة». ثم تستطرد في الشرح عن تجربتها الشخصية في صناعة السينما، فتؤكد أنّه: «أحافظ على طابع معين بأفلامي وهو ما يجب أن يجرب المخرج صنعه لنفسه بأن يبني فكراً خاصاً وطابعاً وهوية، وهو ما سيوصله أكثر إلى الناس... في اليابان لم يكن هناك مخرجات لذا هوجمت عندما بدأت العمل، باعتبار أنها مهنة لا تطعم خبزاً، لكن كان لابد من التمسّك بالحلم وخلق صيغة خاصة تبرّر سبب الذهاب نحو هذه المهنة».
وأخيراً، ترد على سبب عدم اعتمادها على كاتب لأفلامها، بالقول: «أكتب أفلامي ليس لأنني لا أريد التعامل مع شريك في الكتابة، إنّما لأنني أنقّب عن الأفكار الخاصة... ولو قابلت كاتباً يمكنه أن ينجز لي ما أبحث عنه، فالأكيد أنني سأعتمد عليه لأنّه سيسهّل عليّ المهمة».