أن تلتقي بلاعب كرة قدم ما زال في الثلاثينيات من عمره وهو يعمل على بسطة في سوق الخضرة، فهذا تلخيص مكثّف لواقع كرة القدم السورية، وهو ما حدث فعلاً قبل مدّة! لكن أن تصادف كنانة القصير، وهي واحدة من أبرز المواهب، وأقوى الأصوات السورية وهي تغني في نادٍ ليلي، فالأمر سيكون هذه المرّة عبارة عن ترجمة دقيقة لخلاصة ما وصلت إليه الحياة عموماً في بلادنا!ليس عيباً أن تغني القصير في مكان أو أماكن لا تليق بموهبتها واسمها وتاريخها. فماذا يمكن لها أن تفعل والسوق الفني خاو تماماً من كلّ شيء، حتى «السميعة» صار مطلبهم السيلاوي والـ «حبي دبي»، ونحن نعيش حقبة الحصار والعوز بعدما قاربنا على الانتهاء من مرحلة الحرب. على أيّ حال لن ينقص المكان من قيمة موهبتها شيئاً، تماماً مثلما عجزت السنين أن تسرق ألقها، أو تخفف من سحر الكاريزما التي تطوّق حضورها، بل زادت البحّة في صوتها حنيّة، وكأنها القصب الذي قال عنه طلال حيدر يوماً: «كلّ ما عتق بيحن». المغنية السورية وجدت منفذاً خصباً لعالم الفن من خلال تراث بلدها، الذي قدّمته بصوتها الجبلي المنكّه بحنية بليغة في بعض مطارحه فلفتت الانتباه، وحققت سطوة صريحة على مسمع جمهورها من ناحية التعاطف مع بصمة صوتها التي لا تشبه إلا نفسها! رغم أنها قدّمت أغان محكومة بجغرافيا مغلقة، لكنّها تمكّنت من عبور الحدود نحو مهرجانات نوعية، وحضرت بوفرة في المحافل العربية ذلك أيّام اللولو. كأنّها بصوتها ذاك كانت بمثابة تعبير سوري عن مزيح من القوّة والحنان معاً. في أرشيفها أعمال تساعد بالإشارة لها دوماً منها: «بيني وبين حبايبي جبال» و«سالم» و«شفتك يا جفلة» كان المجتمع الريفي على بساطته، يشغفها وتطرق مخيلتها الصورة الموغلة في البساطة والرهافة معاً، خصوصيتها صنعت لها مكانة خلاقة في مطرح مسوّر بالفوضى. لكن الحالة ستتراجع مع قادم الزمن، واكتساح الجراد لمطارح شاسعة من سوريا، وانسحابها تدريجياً بنسبة كبيرة نحو الأغنية الوطنية كونها من عائلة قدّمت قوافل شهداء دون حساب! إلى أن تراجعت وتيرة الحرب، وهدأت أصوات النيران... هنا سنبحث عن كنانة القصير فلن نجد لها مكاناً على الساحة، إلا ما تصنعه من أغان طربية تحقق على منصّات التواصل الاجتماعي بضعة آلاف من المشاهدين دون أيّة رعاية إعلامية وافية، إضافة إلى ما تقدّمه بشكل شبه يومي من أداء مذهل على خشبات مسارح السهر. حسناً! إلى أن تعود سوريا نحو ما كانت عليه، ونمتلك سوق إنتاج محترم، ومنطق تصنيع للنجم، وحماية المواهب اللامعة، لا ضير في تمضية الوقت وإطراب من يستحق الطرب ولو في المكان والزمان الخاطئين!