منذ عام 2005 يسجّل قطاع العقارات ارتفاعات متواصلة في الأسعار. يأتي ذلك رغم أن الشقق السكنية الشاغرة تجاوزت نسبتها 23% من الوحدات السكنية المبنية بين عامي 1996 و2018، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي. هذا الأمر يوضح شيئاً ما مهماً، وهو أن العرض في مكان ما تخطّى الطلب، لكن في الوقت نفسه لم تنخفض الأسعار. تحفّزت هذه الظاهرة بطبيعة النموذج الاقتصادي للبنان الذي كان يواصل استقطاب الأموال من الخارج من دون أن يعيد تدويرها في استثمارات ذات جدوى اقتصادية واجتماعية، لا في البنية التحتية ولا في القطاعات الإنتاجية بشكل عام. وبما أن عملية تعقيم الأموال تفرض كلفة عليها، فلم يجد القيّمون على إدارة هذا النموذج أي مخرج لنقل كلفة التعقيم، سوى بتوجيه الأموال نحو العقارات ورفع أسعارها بشكل عبثي. عملياً كلفة التعقيم التي كانت تترتب على الإدارة المالية، تحوّلت إلى ريع متغلغل في بنية الأسعار التي تحمّلها المستهلك. ولم تكتف هذه الإدارة بذلك، بل قامت أيضاً بإنشاء طبقات من العمليات المصرفية - التمويلية فوق ذلك، لإتاحة تمويل شراء الشقق بأكلاف أسمتها مدعومة، ما أدّى إلى تحويل المجتمع كلفة مقنّعة كان يتم إخفاؤها في عملية تثبيت سعر الصرف التي تراكمت خسائرها على مدى 27 عاماً ثم انفجرت قبل ثلاث سنوات.

بالأرقام

5%
هي نسبة الشركات التابعة للمصارف والشركات الاستثمارية من إجمالي عدد المطوّرين العقاريين في بيروت بحسب إحصاءات «مختبر المدن بيروت»

15%
هي نسبة المساحة التي طوّرتها الشركات التابعة للمصارف والشركات الاستثمارية من إجمالي المنطقة العمرانية في بيروت بحسب إحصاءات «مختبر المدن بيروت»


في الوقت نفسه، لم يكن في القانون اللبناني ما يوقف أو يحدّد سقفاً لهذا الشغور. بمعنى آخر، لم يكن ممكناً استعمال الأدوات الضريبية لفرض إجراءات تخفف من تفاقم هذا المسار أو حتى تحاول تصحيحه. فالقانون لم يفرض أي ضرائب إضافية على الوحدات الشاغرة، ما ترك هامشاً واسعاً للمطوّرين العقاريين المحفّزين بتمويل هائل، لإنشاء المزيد والمزيد من الوحدات العقارية بما يفوق الحاجات الفعلية، فضلاً عن أنه كان يسمح لملاك العقارات الاحتفاظ بعقاراتهم حتى لو كانت شاغرة وهو ما كان يسهم في تقليص حجم العرض في السوق ويبقي الأسعار مرتفعة.
يمكن النظر في هذه القضية من زاويتين؛
- الأولى تتعلق بمالية الدولة وإيراداتها الضائعة بسبب عدم الحصول على ضرائب من الشقق الشاغرة. فالإعفاءات شكّلت مصدراً للتهرّب الضريبي. وهذه الثغرة استخدمها الكثير من ملاك العقارات بهدف التهرّب الضريبي فعمدوا إلى تسجيل شققهم شاغرة بينما هي كانت بالفعل مسكونة. وهو أمر يشير إليه صندوق النقد الدولي في قسم من تقريره الأخير الصادر بعنوان «تقرير المساعدة الفنية حول إعادة السياسة الضريبية إلى المسار الصحيح»، لافتاً إلى أن هذا الإعفاء الضريبي يُعتبر «تنازلياً» لأنه يفيد أصحاب المداخيل المرتفعة فقط، إذ إن معظم مالكي العقارات ينتمون إلى الطبقة ذات المداخيل المرتفعة. كما يذكر التقرير أن فقط إلغاء هذا الإعفاء الضريبي يؤمن إيرادات إضافية للدولة والبلديات بنسبة 0.3% من الناتج المحلّي.



أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الثانية تتعلّق بسوق العقارات نفسه. فليس بالضرورة أن يكون الحديث فقط عن إلغاء الإعفاءات الضريبية، بل يمكن أن يتخطى ذلك ليصبح كناية عن ضريبة استثنائية على الوحدات السكنية الشاغرة، أي أن يدفع أصحاب الشقق السكنية الشاغرة ضريبة استثنائية تكون معدلاتها أعلى من الضرائب على الشقق المسكونة. هذه السياسة متّبعة في العديد من البلدان المتقدّمة والنامية. إلا أن أهداف استخدامها تختلف بين بلد وآخر. يقول الصندوق، إن استخدام الضريبة على العقارات الشاغرة في الدول المتقدّمة يكون في العادة بهدف تشجيع الاستثمارات، أو لمواجهة الانخفاض في الاستثمارات، لكن الموضوع يختلف في البلدان النامية حيث تظهر التجارب أن استخدامها جاء بهدف منع المضاربات، إذ تنتشر ظاهرة شراء العقارات من قبل المستثمرين الكبار، للإبقاء عليها من دون استخدامها بهدف تحقيق المكاسب.
ليس هناك ما يجبر مالكي العقارات على بيع الشقق إذا انخفضت الأسعار بينما هم ينتظرون أرباحاً كبيرة

وما يحصل لاحقاً، هو أنه إذا بدأت الأسعار بالانخفاض في السوق، لا يقوم هؤلاء بالبيع بسعر السوق، إذ إنهم غير مضطرين للبيع بينما ينتظرون أرباحاً، ولا يريدون أن تتحقق خسائرهم، فتبقى العقارات في حيازتهم ولا تُعرض في السوق إلا وفق السعر الذي يناسب أطماعهم بتحقيق أرباح كبيرة، أي بسعر أعلى. هكذا ينخفض العرض الموجود في السوق وتبقى الأسعار مرتفعة، وهو ما قد يخلق فقاعة عقارات نهايتها سيئة. وهذا ما حدث في لبنان، إذ عندما توقّف تمويل الطلب في السوق (من خلال بنك الإسكان ومن المستثمرين الأجانب) بقيت الأسعار مرتفعة لأن المضاربين قرروا الاحتفاظ بعقاراتهم.
يمكن كبح هذه الظاهرة من خلال فرض ضريبة على العقارات الشاغرة تحفّز المضاربين على بيع عقاراتهم، أو على تأجيرها. لأن الضريبة على العقار الشاغر ستجعل المالك يتجنّب الأكلاف غير الضرورية (ضريبة على عقار شاغر في هذه الحالة)، وهو لا يستفيد من هذا العقار. هذا الإجراء يسهم في تحريك السوق ويخفض الأسعار بسبب ارتفاع العرض في السوق، وهو ما ينعكس بشكل مؤكّد على الإيجارات ويخفّضها. وفي نهاية الأمر، تتحسّن فرص الأسر والأفراد للحصول على مساكن من دون تكاليف باهظة.